كل تلك الترّهات في الحدث الفرنسي
لم تمرّ أحداث فرنسا أخيرا بعد مقتل نائل، الشاب الفرنسي (من أصل جزائري)، على يد الشرطة الفرنسية مرور الكرام بالنسبة للعرب، سواء منهم المقيمين في بلادهم أو المقيمين في فرنسا وأوروبا، إذ انقسمت ردود الفعل على الأحداث الحاصلة بين رأيين بالغي التطرّف وبعيدين كليا عن فهم الحدث وأسبابه الموضوعية والتاريخية. يندرج الأول في رد الفعل الشامت بفرنسا وبما يحصل فيها، واعتبار الحدث والغضب المصاحب والتكسير والنهب والحرق انتقاما عادلا ضد ما أطلق عليه هؤلاء "الانحلال الأخلاقي" المتمثل في السماح بكل أنواع الحريات الجنسية في فرنسا، وتشريع زواج المثليين، وغير ذلك من أنواع الحريات الاجتماعية والجنسية التي يتمتع بها مواطنو فرنسا، في تجاهلٍ واضحٍ ومتعمد لقضايا بالغة الأهمية، الأولى أن المحتجّين لم يقتربوا من مسألة الحريات تلك على الإطلاق. كان احتجاجهم على التهميش والعنصرية التي تمارس ضدهم، والتي تظهر واضحة في السياسات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية للحكومات الفرنسية المتعاقبة. والثانية أن المحتجّين لم يكونوا فقط من أصول عربية، بل شهدت الشوارع الفرنسية خلال الأيام الماضية حضورا كبيرا للسود الأفارقة، مثلما شهدت حضورا لليسار الفرنسي (الأبيض). ما يعني أن الاحتجاجات كانت سياسيةً أولا بكل ما تحمله السياسة من تقاطعاتٍ واشتباكاتٍ مع الوضعين الاقتصادي والاجتماعي. كما أن موضوع الحرّيات الجنسية استفاد منه الفرنسيون المنتمون إلى كل الديانات، لكنهم مواطنون في دولة علمانية تحمل مبادئ حقوق الإنسان والمواطنة. هذا طبعا من دون أن ننسى أن اليمين الفرنسي المتطرّف الذي ينتمي إليه الشرطي قاتل الشاب نائل هو أول معادٍ للحريات الجنسية في فرنسا، كونها تمسّ بتعاليم الكنيسة التي تُعلي من شأن العائلة الاجتماعية التقليدية وقيمها التي بدأت الهوية الجنسانية الجديدة تدكّ الأطر الحامية لصورتها المعتادة.
أما الفئة الثانية فأفرادها عرب (سوريون في أغلبهم) مقيمون في فرنسا وأوروبا سارعوا للتبرّؤ من "الجهات" المحتجّة واصفين إياها بالتخلف والهمجية وقلة الأصل، كونها لم تحترم الدولة التي استقبلتها ومنحتها حقوقا لم تُعطها لها بلادها، وبعضهم طالب الحكومة الفرنسية بترحيل تلك الفئات إلى بلادها وسحب الجنسية الفرنسية منها. ليس مفهوما لماذا يتجاهل هؤلاء أن المحتجين والغاضبين هم فرنسيون تماما، ولدوا وتربّوا وعاشوا في فرنسا، ومعظمهم لا يعرفون أي كلمة عربية، ولا يتقنون غير اللغة الفرنسية، ولا تربطهم أي صلة ببلاد آبائهم وأجدادهم سوى ما يتلقّونه من تمييز سياسي واجتماعي، بسبب لون البشرة الذي انتقل إليهم عبر الجينات. هؤلاء، أيضا، يتجاهلون أن أبناءهم سيكونون معرّضين للتمييز نفسه إذا لم تعمل الحكومة الفرنسية على إعادة النظر في سياساتها الداخلية، ومحاولة استعادة الهوية الوطنية الفرنسية، لتكون هوية جامعة لكل من يحمل الجنسية الفرنسية، أو يعيش على أرض فرنسا من دون أي تمييز لا عرقي ولا ديني ولا طبقي.
ثمّة كثير من الهذر والترّهات العنصرية التي ظهرت في الأيام الماضية على وسائل التواصل الاجتماعي من سوريين وعرب يعيشون في فرنسا. عنصرية لا تُفهم إلا في إطار الهزائم النفسية الشخصية والعامة، والتي عادة ما تُنتج مظلوميةً عكسيةً موجّهة نحو ضحايا سياسات استعمارية وليبرالية اقتصادية رأسمالية ومتعالية، لكنها، لسوء الحظ، مظلومية لن تُنجيهم من خطاب الكراهية الذي يعتمده العنصريون في أدبيّاتهم وسلوكهم، وربما ستجعلهم هدفا لتطرّف وعنصرية مضادّيْن، فخطاب الكراهية لن ينتج سوى كراهية، وخطاب العنف لن يُنتج سوى عنف سوف يتعمّم على الجميع إن لم تتغيّر الأوضاع الحالية.
لا أحد يرحب بالغضب المدمّر ولا بالنهب ولا بالحرق، خصوصا أن هذا الغضب سوف يدفع المواطنون جميعا ثمنه من ضرائبهم. لكن أيضا لا يمكن السيطرة على موجات الغضب الشعبية المماثلة إلا بتغيير السياسات الحالية، وأولها سياسة الاندماج وقوانين الهجرة والسياسات الاقتصادية في العموم. كما أن السلوك البشري في الاحتجاجات الشعبية دائما كان متشابها ولا يتعلّق بعرقٍ أو دين. نتذكّر قبل سنوات المظاهرات الشعبية في اليونان احتجاجا على الأوضاع الاقتصادية المتردّية، وما رافقها من حرق وتدمير ونهب. نتذكّر أيضا مظاهرات الكتالونيين في مطالبتهم بالاستقلال، وأيضا ما صاحبها من حرقٍ وتدمير ونهب. وهؤلاء ليسوا مهاجرين يحملون جنسية اليونان أو إسبانيا، بل هم أبناء الأصليين، فهل سنُطلق عليهم لقب الهمج أيضاً؟