كل فتاة بمليكها معجبة
"نجحت النسوة وأخفقت المعارضة".. عنوان عريض سيتذكّره الأردنيون طويلًا، عندما يدوّن التاريخ غدًا أن محض مماحكة نسائية على رصيف شارع أسفرت عن تغيير قانون مجحف، فشلت أحزاب ونقابات ومعارضات وحراكات في تغييره. وفي المحصلة، كانت الغاية فرحًا غزيرًا، بينما كانت الوسيلة التي برّرت الغاية ملهاةً بحجم الكوميديا السوداء كلها.
غير أن المفارقة تزداد تعمّقًا عندما تتسلل نظرية "فتّش عن المرأة" من ثقوب الكوميديا أيضا، عندما أفلحت بطلتا الرصيف إياه في قلب محتوى النظرية رأسًا على عقب؛ ليصبح "التفتيش عن المرأة" ذا معنى إيجابي، لا سلبيّ كما أراده نابليون بونابرت الذي ربط المكائد والدسائس بالمرأة تحديدًا.
عمومًا، في الواقعة الأردنية الشهيرة، تماحكت امرأتان على موقف سيارة، فتحوّلت الملاسنة إلى مكيدة حاولت عبرها إحداهن الإيقاع بالأخرى، عندما زجّت الملك في الحوار بينهما، فتفاخرت بنسبها على حساب الأخرى ووالدها من خلال عبارتها التي أطلقتها: "الملك فوق .. وأبوك تحته بدرجة"، فما كان من المرأة الثانية إلا أن غضبت لوالدها وردّت عليها: "أبوي أحسن من الملك"، فالتقطت الأولى هذه العبارة دليل إدانة ضد الأخرى، ورفعت عليها دعوى "إطالة اللسان"، فحكم عليها بالسجن سنة ونصف السنة مع وقف التنفيذ، ثم تدخل الملك الذي يبدو أنه أسقط الدعوى، وطلب إعادة النظر في هذا القانون برمته.
ولعل المفارقة هنا أن هذه الحادثة جاءت إبّان احتفالات الأردنيين بالمئوية الأولى لإنشاء دولتهم، ما يعني أنه كان عليهم أن ينتظروا مائة عام لمحو هذا القانون المجحف من دستورهم، الذي تسبّب بزج كثيرين في السجون، لأسبابٍ معظمها كيديّ؛ إذ غالبًا ما كان يتم استفزاز الضحايا عبر حشرهم في زاويةٍ لفظيةٍ ضيقة، لإخراجهم عن طورهم، ومن ثم اقتناص أي عبارةٍ تخرج من أفواههم في لحظة غضب، واعتبارها دليل إدانة ضدهم.
والآن؛ هل تستفيد الأحزاب والحراكات الأردنية من هذه الواقعة، لتوظيف ألسنة النساء في تغيير قوانين أخرى؟ مثلًا: ما الضير أن تفتعل امرأتان ملاسنةً ما ضدّ قانون الانتخاب الذي لا يفرز أيّ ديمقراطية برلمانية حقيقية، كأن تقول الأولى للثانية: "هذا القانون أهمّ من أبيك"، فتجيبها الأخرى: "أبي أهم من قانون الانتخاب"، فتحال القضية إلى المحاكم، ثم يعيد ولاة الأمر النظر في القانون ليجعلوه أغزر ديمقراطية. وعلى الغرار نفسه، يمكن التعامل مع قوانين النقابات المهنية، والحريات، وحقوق التعبير والنشر والتظاهر، فضلاً عن استحداث قوانين معزّزة للحرية، كالملكية الدستورية، وانتخاب رئيس الوزراء، وحق الأغلبية البرلمانية في تشكيل الحكومات.
يدين الأردنيون، إذن، للمرأة التي كانت "بأبيها معجبة"، ولو من منصّة العلاقة الأسرية، على الرغم من أنها لم تكن تعقد مقارنة بين أبيها والملك، غير أن "المجتمع الأبوي" كان يفرض نظريته في هذه المماحكة التي لم تكن عابرةً، فكلتا المرأتين كانتا على حق في وجهتي نظرهما. الأولى كانت تعتبر الملك أبا الجميع، والأخرى لاذت بأبيها بوصفه ربّ أسرتها الصغيرة، فجاء التضارب مفيدًا لضحايا "إطالة اللسان" الذين طلب المدّعي العام أوراق قضاياهم لإعادة النظر فيها على طريق تبرئتهم وإعادة الاعتبار لهم.
وفي المقابل، يثور سؤال مركزيّ: كيف سيتعامل الأردنيون مع ألسنتهم المختطفة بعد استعادتها؟ أليسوا أشبه بيتامى دور الرعاية الذين نشأوا على فكرة أن الكائنات البشرية تولد من دون ألسنة، أو أن الألسنة ليست أبعد من زوائد دودية قابلة للاستئصال، من دون أن يترتب على ذلك أية خطورة تذكر على أحوالهم. والمقصود هنا بالطبع الألسنة التي تجهر بكلمة الحق من دون خوف الملاحقات الأمنية، والألسنة التي تتقن فنون النقد، ولا تخشى لومة لائم، الألسنة التي تهتف بالحرية، لا الألسنة التي لا تجيد غير أساليب التملّق والرياء.
المواجهة هنا ستكون بين لسانين، الأول مخضرم على المداهنة وتزييف الحقائق، والآخر مرتبك متلعثم يحتاج إلى عمليات طويلة من إعادة التأهيل.
متى سيحدث ذلك؟.. ربما إبّان الاحتفال بالمئوية الثانية للدولة الأردنية، إلا إذا تدخلت المرأة.