كل هذه التحدّيات أمام حكومة الدبيْبة في ليبيا
صوّت ملتقى الحوار الليبي (75 عضوا) الذي أشرفت عليه الأمم المتحدة على اختيار قائمة عبد الحميد الدبيبة لإدارة شؤون البلاد مؤقتا، إلى حين تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية (24 ديسمبر/ كانون الأوّل2021). وضمّت القائمة الفائزة محمد المنفي رئيسا للمجلس الرئاسي، وموسى الكوني وعبد الله حسين اللافي، عضوين في المجلس. فيما تولّى الدبيبة منصب رئيس الوزراء. وعرض الرّجل لاحقا فريقه الحكومي أمام البرلمان في سِرْت، وفاز بثقة 132 نائبا من مجموع 133 حضروا الجلسة. وأدّت حكومة الوحدة الوطنية تاليا اليمين الدستورية في طُبْرق، وهي عمليّا الحكومة الشرعية، المعترف بها داخليا ودوليّا. وتواجه الحكومة الجديدة تحدّيات سياسية، وعسكرية، واقتصادية، واجتماعية/ حقوقية عدّة.
ويمكن القول إنّ عبد الحميد الدبيبة نجح في تشكيل حكومة ترضية موسّعة، جمعت ممثّلين لأغلب مكوّنات المشهد السياسي، والجهوي، والعشائري الليبي، وبلور حالةً من التوافق النسبي بين أطراف متباينة، كانت، إلى عهد قريب، تعيش حالة من التنافر والصراع المحتدم على السلطة، بلغت أوْجها بإعلان اللواء المتقاعد خليفة حفتر الحرب على طرابلس (04/ 2019/04). ويبدو أنّ ما تكبّده الأخير من خسائر فادحة في العتاد والعدد، وفشله في اقتحام العاصمة والانقلاب على الحكم المدني، وما عاناه الليبيون من ويلات التهجير القسري، والقصف العشوائي، وما دفعوه من ضحايا جرّاء حربٍ عبثية، ضروس، دفع ذلك كله الفُرقاء من أبناء الوطن الواحد إلى الاجتماع على طاولة الحوار، والتوصّل إلى تسوية سياسية بمرافقة بعثة الأمم المتّحدة، وبضغط من دول وازنة، في مقدّمتها، الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا، وهي تسوية انبنت على توافق هشّ أمْلته الضرورة.
وتعتبر استدامة هذا التوافق تحدّيا في حدّ ذاته، يستوجب درجةً عاليةً من الانسجام والتضامن الحكومي، ويقتضي من فريق عبد الحميد الدبيْبة العمل على تقريب وجهات النظر بين الفاعلين في المشهد الليبي، وتجميعهم تحت رايةٍ وطنيةٍ واحدة، عنوانها بسْط سيادة الدولة على كامل التراب الليبي، وتعزيز السلم الأهلي، ومراعاة المصلحة العامّة. ومطلوبٌ من الحكومة الجديدة تطبيق محامل خريطة الطريق التي وضعها ملتقى الحوار الليبي، وفي مقدّمتها توحيد المؤسسات السيادية (هيئة الحكم، مجلس النوّاب، الجيش، مصرف ليبيا المركزي)، واختيار قيادات جديدة لإدارة المرحلة الانتقالية، وتهيئة الظروف المناسبة لتنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية في أفق2021. ومع أنّ حكومة الوفاق الوطني، بقيادة فايز السرّاج، تحلّت بدرجة عالية من المسؤولية، وسلّمت مقاليد الحكم بطريقة سلمية، سلسة، إلى حكومة عبد الحميد الدبيْبة، فإنّ بعض "الديناصورات السياسية القديمة"، والعبارة لرئيسة بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا بالوكالة، ستيفاني ويليامز، لم تستوعب بعدُ مرحلة التغيير التاريخي المشهود في ليبيا، وما انفكّت تصرّ على التشبّث بمناصبها لتحافظ على نفوذها، وعلى مصالحها الشخصية والفئوية. ومثال ذلك عقيلة صالح الذي يُفترض، بموجب مخرجات ملتقى الحوار الوطني، تغييره، وانتخاب شخصية من الجنوب تحلّ محلّه في خطّة رئيس مجلس النوّاب لتأمين قيادة المرحلة الإصلاحية الجديدة بوجه جديد على رأس المؤسسة التشريعية، ولتحقيق التوازن المناطقي بين الشرق والغرب والجنوب في مستوى توزيع الخطط القيادية في المؤسسات السيادية. ولكن يبدو أنّ الرجل مصرّ على البقاء في منصبه، وهو الذي له سوابق في تعطيل في مسارات التسوية السلمية للأزمة الليبية. من ذلك عرقلته تنفيذ محامل اتّفاق الصخيْرات (2015)، وتنظيم انتخابات عام 2018، وتأييده الحرب على طرابلس (2019). يُضاف إلى ذلك أنّ البرلمان ظلّ منقسما، معطّلا على عهده، ولم يجتمع إلا نادرا. ومن ثمّة، فإنّ إعادة بناء المشهد القيادي، والمحافظة على التوافق والتضامن الحكومي، وسيطرة الدولة على التراب الليبي من أقصاه إلى أقصاه، والتمهيد لتنظيم انتخابات نزيهة، هي تحدّيات سياسية حقيقية، موكول إلى حكومة الوحدة الوطنية بقيادة الدبيْبة العمل على كسْبها تحقيقا للتغيير الشامل المنشود.
حكومة الوفاق الوطني، بقيادة السرّاج، تحلّت بدرجة عالية من المسؤولية، وسلّمت مقاليد الحكم بطريقة سلمية، سلسة، إلى حكومة الدبيْبة
على الصعيد العسكري، طالب مجلس الأمن الدوْلي كلّ الأطراف في ليبيا بالالتزام بوقف إطلاق النار. فيما أفاد تقرير أممي بأنّ "حظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا غير فعّال تماما". ونصّ اتّفاق جنيف الموقّع بين أعضاء اللجنة العسكرية (5 + 5) في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي على تحديد مهلة 90 يوما لرحيل المرتزقة من ليبيا. وانقضت المدّة المذكورة، وما زالت البلاد تعجّ بالجماعات المسلّحة المحلّية والأجنبية. ويُشكّل هذا الواقع العسكري/ الميداني المعقّد تحدّيا كبيرا أمام حكومة الوحدة الوطنية. وهي معنيّة أساسا بإلزام الجميع باحترام وقف إطلاق النار، ووقف التوريد العشوائي للسلاح برّا، وبحرا، وجوّا. وتعجّ ليبيا بملايين قطع السلاح المهرّبة أو المسروقة، والمتداولة بطريقة غير شرعية. ومن المهمّ أن تستعيد الدولة سلطتها، وتحتكر استخدام السلاح. ويقتضي ذلك إلزام الكتائب المسلّحة، في شرق البلاد وغربها، بتسليم عتادها إلى وزارتي الدفاع والداخلية. ويستدعي هذا التوجّه حلّ المليشيات الليبية، وتجفيف منابع تمويلها، وتأهيل عناصرها، وإعادة إدماجهم داخل هياكل أمنية، ودفاعية رسميّة (شرطة، حرس، جيش، حماية مدنية، جهاز الجمارك والمعابر الحدودية ..) تكون لها قوانين ومدوّنات سلوك محدّدة، وتراتبية واضحة، وتخضع لقيادات مدنية. ومن غير البعيد أن تُواجه الحكومة الجديدة تعنّتا في هذا الخصوص من الجماعات المسلّحة عموما، والكتائب الموالية لخليفة حفتر خصوصا، وهو الذي يُريد أن يستأثر بقيادة الجيش، ويعتبره فوق الدولة، ولا يقبل أن يكون تحت إمرة قيادة مدنية.
يُفترض أن تعمل حكومة الوحدة الوطنية على توحيد مؤسّسة المصرف المركزي، وضبط موازنة عامّة مدقّقة
أمّا في خصوص المرتزقة الأجانب، فيقدّر عددهم بـ20 ألفا بحسب ستيفاني ويليامز. ويوجد بعضهم في الغرب الليبي، فيما يتمركز أغلبهم في شرق البلاد، وفي منطقة الهلال النفطي. ومن بينهم سودانيون، وتشاديون، وسوريون، وروس ينتمون إلى شركة فاغنر بحسب تقارير أممية متواترة، ويتقاضى هؤلاء رواتب عالية. ويعدّ ترحيلهم تحدّيا بارزا يُواجه حكومة الوحدة الوطنية لأنّهم يرتبطون بشبكة علاقات مع دول أجنبية، تُريد أن تُساوم بوجودهم من عدمه لضمان نصيبها من مشروع إعادة إعمار ليبيا، والاستثمار في ثرواتها الطبيعية. وتحتاج الحكومة الليبية في هذا الشأن إلى تشكيل رأي عام شعبي، محلّي، رافض وجود المرتزقة في البلاد. كما تحتاج إلى دعم خارجي من القُوى العُظمى (الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة، بريطانيا ..) بغاية تكثيف الضغط الدبلوماسي والميداني على المرتزقة وموكّليهم، ودفعهم إلى تسليم مواقعهم وأسلحتهم إلى الحكومة الشرعية المعترف بها دوليّا على نحو يضمن استدامة السلام والاستقرار في البلاد، ويُغري المستثمرين الأجانب بالتوجّه نحو ليبيا، لممارسة أنشطتهم التجارية والاقتصادية في "بلد آمن".
على المستوى الاقتصادي، ورثت حكومة الدبيْبة اقتصادا متهالكا، أدْمته الحرْب، وظواهر الفساد المالي والإداري، وأرهقه الإيقاف المتعمّد لإنتاج النفط وتصديره من قبائل ومليشيات موالية لحفتر خاصّة، واستنزفته المؤسسات الموازية (حكومة البيضاء، مصرف بنغازي ..)، والتجارة غير النظامية، وتهريب المحروقات والمواد الأساسية. لذلك يُفترض أن تعمل حكومة الوحدة الوطنية على توحيد مؤسّسة المصرف المركزي، وضبط موازنة عامّة مدقّقة، وأن تقوم بتحرير حقول النفط من الهيمنة الأجنبية أو العشائرية أو المليشيوية باعتبارها ملكا لعموم الليبيين، وأن تسعى إلى استعادة النسق المكثّف لتصدير الذهب الأسود (البترول) الذي يُعتبر المصدر الأوّل لمداخيل الخزينة العامّة الليبية. وسيسمح القيام بهذه الإصلاحات الاستعجالية الضرورية بتوفير السيولة النقدية، وتأمين المرتّبات، ويجعل الدينار الليبي يستعيد عافيته، ولو نسبيا.
الحكومة قادرة على فتح ورشات الإصلاح والتغيير في مجالات مختلفة، والتمهيد لانتقال سياسي واقتصادي وحقوقي في ليبيا
على الصعيدين، الاجتماعي والحقوقي، من المهمّ أن تُعجّل الحكومة الجديدة بتوفير خدمات القرب للمواطنين، وفي مقدّمتها الماء والكهرباء والغاز، والأدوية، والمواد الغذائية الأساسية، وأن تنخرط في مسار محاربة إهدار المال العام، والاحتكار، وغلاء الأسعار. ومن الضروري أن تُبلور إستراتيجية ناجعة لمكافحة جائحة كورونا، وأن تأخذ في الاعتبار تكثير وسائل التوقّي من الوباء، واستقدام القدر الكافي من اللقاحات، وضمان المرافقة العلاجية والمتابعة الاستشفائية للمصابين تعزيزا لحقّ المواطن في صحّة جيّدة. ومن المهمّ بمكان إطلاق سراح المساجين السياسيين، ومعالجة ملفّات الاختفاء القسري، والقتل خارج القانون، ووضع حدّ للإفلات من العقاب، وإصلاح القضاء، وتوفير الظروف المناسبة لعودة النّازحين والمهجّرين قسرا إلى منازلهم والسماح لهم باستئناف حياتهم المهنية في تمام الأمان، والعمل على وضع اللبنات الأولى لمشروع العدالة الانتقالية، تمهيدا لمصالحة عملية، جامعة، عادلة.
ختاما، صحيح أنّ الزمن السياسي الفعلي المتاح لحكومة الدبيْبة محدود، وأنّ التحدّيات التي تواجهها عديدة. لكنّ ذلك لا يمنع أنّ هذه الحكومة المؤقتة قادرة على فتح ورشات الإصلاح والتغيير في مجالات مختلفة، والتمهيد لانتقال سياسي، اقتصادي، حقوقي في ليبيا. ذلك ممكن في حال تحقّق التضامن الحكومي والتنسيق الوزاري البيني، من أجل خدمة المصلحة العامّة، وفي حال استمرّ الدّعم الدوْلي الواسع لحكومة الوحدة الوطنية، وحافظت الحكومة الجديدة على حاضنتها الشعبية المعتبرة في الدّاخل الليبي.