كوريا الشمالية والعِبرة من نظام صدّام
لعلها من المصادفات ذات المعنى أن تتزامن الذكرى الثالثة والثلاثين لإقدام صدّام حسين على غزو الكويت عام 1990، الذي أفضى بعد سلسلة من التداعيات إلى احتلال العراق وإسقاط نظامه عام 2003، مع بيان أصدرته البعثة الدائمة لكوريا الشمالية لدى الأمم المتحدة ذكّرت فيه بأن بلادها انسحبت من معاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النووية قبل 20 عاماً، وأنها من ثم غير مطالبة بالالتزام بها، إلى جانب سردها مطالب بيونغ يانغ التقليدية عن ضرورة وقف الولايات المتحدة نشر الأسلحة النووية، والتأكيد على أن كوريا الشمالية لن تستعمل سلاحها في وجه من لا يتعرّض بخطر لأمنها.
والعامل المشترك بين الذكرى "الصدّامية" والتذكير الكوري أن انسحاب بيونغ يانغ من تلك المعاهدة تزامن مع تحضيرات جورج بوش الابن لغزو العراق في مطلع عام 2003، التي ترافقت مع اعتباره أن محور الشر في العالم يجمع العراق وإيران وكوريا الشمالية، وهو ما دفع الرئيس الكوري الشمالي الراحل كيم الأب إلى التفكير بتجنّب مصير نظام صدّام ومآلاته، كذلك فحص أسبابه وجذوره، لتكون الخلاصة أنه لولا تخلّي نظام صدّام عن أسلحته وبرامج التسلح التي كان يعمل عليها، ما تمكّن الأميركيون، في نهاية المطاف، من إسقاطه، ما يعني أن بيونغ يانغ لا يجوز لها أن تتخلّى عن برامج تسلّحها، خصوصاً النووية، كي لا يلقى نظامها الشيوعي مصير نظام صدّام. ... وهكذا تحول السلاح النووي في يد كوريا الشمالية ضمانة لبقاء النظام، وردع الولايات المتحدة وحلفائها عن التفكير بغزو أراضيها وخلع آل كيم عن السلطة.
أجرت كوريا الشمالية، في عام 2006، أول تجربة نووية لتدخل عملياً نادي الدول التي تمتلك هذا السلاح، بعد استعانتها بالخبير الباكستاني عبد القدير خان، الذي يعدّ الأب الروحي للبرنامج النووي الباكستاني وصانع أول قنبلة نووية لبلاده. منذ ذلك اليوم، بات الحديث عن منع كوريا الشمالية من امتلاك السلاح النووي الذي دار بين عامي 1985 (حين وقّعت على معاهدة الحد من انتشار السلاح النووي) و2003 (حين انسحبت منها)، جزءاً من الماضي.
واشنطن ستكون حريصةً على الظهور بمظهر من يعمل لمصلحة حلفائه، والدفاع عن مصالحهم، كي تضمن في المقابل انخراطهم الجدّي في مواجهة الصين
وإذا كان التفكير بامتلاك السلاح النووي يمثّل ضمانة لاستمرار النظام السياسي في عهد كيم الجد، وامتلاكه فعلاً يمثل ضمانة أعمق في عهد كيم الأب، فإنه بالضرورة يمثل ضمانةً عميقة لا جدال فيها في عهد كيم الحفيد الذي يحكم كوريا الشمالية منذ 2011، مواصلاً تطوير برامج الأسلحة بما فيها الصواريخ الباليستية التي باتت تصل اليوم لمدى بعيد يمكن أن يبلغ شواطئ الولايات المتحدة.
أما سبب اعتبار هذه الأسلحة ضمانة أكثر أهمية من ذي قبل لنظام بيونغ يانغ، فالصراع المشتد في العالم بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، والصين من جهة أخرى، الذي دفع الولايات المتحدة إلى الانتشار العسكري في غرب المحيط الهادئ، وتنشيط علاقاتها العسكرية مع خصوم بيونغ يانغ القريبين، أي كوريا الجنوبية واليابان، ذلك أن بيونغ يانغ تريد من خلال سلاحها النووي والباليستي القول إنها لن تكون فريسة سهلة في حال طمعت الولايات المتحدة بمهاجمتها في إطار هذا الصراع الدولي. لهذا راحت تطلق عشرات الصواريخ الباليستية منذ مطلع العام الماضي (2022) في استعراض للقوة يراد منه الردع في المقام الأول، لا التهديد بمهاجمة جارتها الجنوبية.
على أن خشية كوريا الشمالية من مهاجمة أراضيها واقتلاع نظامها الشيوعي في إطار الصراع الأميركي الصيني لا تنبع من أن بيونغ يانغ تعتبر حليفة لبكين، فالعلاقة بين الدولتين معقّدة أكثر من أن يجري وصفها تحالفا، لأن الصين لم تكن راضية دوماً عن تصرّفات نظام كوريا الشمالية الذي يفتعل التوتر في أوقاتٍ أرادت فيها الصين الهدوء كي تضمن سلاسة علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع العالم، التي هي مفتاح الصين الرئيسي للنفوذ والتحوّل إلى قطب دولي ذي شأن.
بدون السلاح النووي، لن تتوانى واشنطن عن تقديم نظام كوريا الشمالية لقمةً سائغةً على مائدة سيول وطوكيو، كي تعزّز انضواءهم في ظلها
تنبع الخشية الكورية الشمالية من نهج الولايات المتحدة في إدارة صراعها مع الصين، والذي يقوم على تشكيل (وقيادة) تحالف دولي ضد بكين، يتركّز اليوم في شرق آسيا وغرب المحيط الهادئ بعدما تلكأت دول الاتحاد الأوروبي الرئيسية في الانضمام إليه في وقت مبكّر من وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض. وهذا يعني أن واشنطن ستكون حريصةً على الظهور بمظهر من يعمل لمصلحة حلفائه، والدفاع عن مصالحهم، والتصدّي لما يثير مخاوفهم وهواجسهم، كي تضمن في المقابل انخراطهم الجدّي في مواجهة الصين. وليس ثمة في شرق آسيا من باعث للمخاوف والهواجس لدى حلفاء واشنطن، أي كوريا الجنوبية واليابان، أكبر من نظام بيونغ يانغ وأسلحته وطموحاته وسلوكه الذي لا يمكن تخمينه.
والحال أن نظام كوريا الشمالية لن يتنازل عن تلك العبرة التي استخلصها من إسقاط نظام صدّام بعد خلع أظافره ومحاصرته وإضعاف قوته العسكرية، ذلك أن سلاحه النووي الذي يهدّد به اليوم حلفاء واشنطن في محيطه الجغرافي، ومن بعده واشنطن نفسها عبر صواريخه بعيدة المدى التي يمكن أن تحمل رؤوساً نووية، هو الضمانة الوحيدة لبقاء النظام الشيوعي في السلطة، وبغيره لن تتوانى واشنطن عن تقديمه لقمةً سائغةً على مائدة سيول وطوكيو، كي تعزّز انضواءهم في ظلها.