كيف تبرمجنا على قراءة العناوين
وأنا أتصفح "فيسبوك" قبل أيام، مرّ معي عنوان لخبر منشور في واحدٍ من المواقع الإلكترونية السورية غير المعروفة: "بعد تخليه عن المعارضة.. جمال سليمان في ظل العودة إلى الوطن .. كيف سيكون الاستقبال؟". الخبر مرفق بصورة للنجم السوري الشهير. ولأن العنوان لافت للانتباه، قرأت الخبر، لأعرف أن الموضوع متعلق بمسلسل سوري سوف يقوم جمال سليمان ببطولته، وسيعرض في شهر رمضان المقبل، عنوانه "ظل العودة". لم يذكر المقال من سيقوم بإخراجه، ولم يذكر أي تفاصيل عن قصته، وهل المقصود بالعودة إلى مكان ما أم إلى الحب أم إلى الشباب أم إلى الحلم .. إلخ، وكلها مواضيع صالحة لأن تكون قصصا لمسلسل تلفزيوني يُشاهد في رمضان. لكن من صاغ الخبر ووضع له العنوان إياه لم يهتم بهذه التفاصيل، أراد أن يضع عنوانا مثيرا لخبره، يمكن من خلاله جذب أكبر عدد من القرّاء، وهو أمر بات معتادا في الصحافة الرقمية والمواقع غير المشهورة، حيث نقرأ عناوين تدلّ على أن كارثة ما حاصلة ليكون الخبر تافها ولا معنى له.
غير أن اللافت في الخبر إياه ليس طريقة صياغته، ومحاولة كاتبه اللعب على عنوان المسلسل المطروح مع تصريحات النجم السوري أخيرا عن تجميده دوره في الهيئة العليا للتفاوض مع النظام ومنصة القاهرة، وإنما التعليقات التي ذيلت الخبر، وكتبها مئات من السوريين، معارضين للنظام ومؤيدين له. لم يقرأ أحد منهم حرفا واحدا مما كتب في الخبر نفسه. هل سيدهشكم القول إن أكثر من تسعين في المئة من تعليقاتهم كانت شتائم ضد جمال سليمان؟ أعلن المؤيدون رفضهم استقباله في سورية، واتهموه بالخيانة والعمالة، وحمّلوه مسؤولية دم "الشهداء"، وطالبوا "الأجهزة المختصة" بانتظاره على الحدود أو في المطار لنقله إلى المعتقل. في الجهة المقابلة، لم يقصّر المعارضون في شتائمهم واتهاماتهم له، فهو خائن للثورة وعميل قديم للنظام، ومتسلّق على دم "الشهداء"، متوقعين أنه موعود بمنصب سياسي مهم لدى النظام، بعد أن عجز عن ذلك إثر فشل المعارضة في استلام الحكم. وليس مستغربا أن بين المؤيدين والمعارضين من يضعون صورة بشار الأسد أو أبيه أو أردوغان أو صدّام حسين، بدل صورهم الشخصية على صفحاتهم، لكن المستغرب والمؤسف أن تجد بين كاتبي التعليقات مثقفا يفترض أنه رصين، وتتوقع أنه حتما سوف يقرأ ما تحت العنوان قبل أن يدلي بدلوه، لكنه مثل غيره، اكتفى بقراءة العنوان من دون المتن، العنوان الذي تناقلته مواقع وصفحات سورية كثيرة بعناوين مختلفة، كلها عن عودة النجم إلى "حضن الوطن"، حتى أن جمال سليمان اضطر إلى التصريح على صفحته في "فيسبوك" يكذب فيه الإشاعة التي انتشرت خلال ساعات قليلة، وتعامل معها كثيرون بوصفها حقيقة دامغة.
ليست هذه الإشاعة الأولى عن جمال سليمان، فطالما تم اقتطاع تصريحات له من سياقها وتسويقها على "السوشيال ميديا" باعتبارها تصريحات نهائية له، ما يفتح المجال للدهماء والغوغائيين بإطلاق ما تيسّر لهم من شتائم واتهامات. وليس جمال سليمان أيضا الاستثناء في هذا. يحدُث ذلك دائما مع شخصيات سورية عامة، سياسية أو ثقافية أو فنية. ولا يعتذر أحد من ناشري الإشاعات أو كاتبي تلك الأخبار عن فعلته، بعد تبيان عدم صحة ما كتب. ولن يكون في وارد الغوغائيين الاعتذار عن شتائمهم.
تثير الحادثة هذه التساؤل بشأن تناولنا أخبار "السوشيال ميديا"، وتعاملنا مع العناوين المطروحة أمامنا، وكيف تمت برمجتنا على الاكتفاء بقراءة العناوين، وتكوين وجهة نظر سريعة من خلالها، من دون الالتفات إلى المتن أو الاهتمام بالمحتوى، وكيف نبني مواقف مؤثّرة بناء على قراءات سريعة لعناوين مثيرة، وكيف يمكن تشكيل رأي عام بالاعتماد على هذه البرمجة التي نحّت الجدّية والسؤال عن المصادر الموثوقة لصالح الإثارة والغوغائية في نقل المعلومة أو الخبر. ولعل مطبات كثيرة قاتلة وقعت فيها الثورة السورية كانت بسبب هذه البرمجة وتحويل الرأي العام الجماهير الثائرة نحو منحى معين ما كانت لتذهب إليه، لولا التدريب على احتقار الرصانة لصالح الاستسهال.