كيف تنتخب رئيساً في لبنان؟
يدخل لبنان مرحلة انتخابية هي الأبرز في السنوات الثلاث الماضية، التي تلت انتفاضة 17 أكتوبر (2019) وتفشّي وباء كورونا، والانهيار الاقتصادي، وتخبّط كلّ الأطراف السياسية من دون استثناء، وتحوّل البلاد من شبه دولة إلى شبه لا دولة.
في مطلع شهر سبتمبر/ أيلول المقبل، سيسلك الاستحقاق الرئاسي طرقه الدستورية، حسبما هو مفترض، لكن انتخاب رئيسٍ يخلف الرئيس ميشال عون، الذي تنتهي ولايته في 31 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، ليس حتمياً. نسبة حصول الفراغ الرئاسي موازية تماماً لنسبة إجراء حفل تسلم وتسليم بصورة طبيعية. لا يعود الأمر إلى المجلس النيابي المعقّد، الذي أفرزته الانتخابات النيابية في مايو/ أيار الماضي، بل إلى تفصيلٍ جوهريٍّ يتناساه اللبنانيون دوماً.
هذا التفصيل مرتبط بعملية انتخاب الرئيس. الحقائق واضحة، لم يُنتخب رئيسٌ قط من دون موافقة ضمنية من الإقليم والدول العظمى. وبعد الحرب اللبنانية (1975 - 1990) أصبح اختيار، لا انتخاب، أي رئيس، خاضعاً لتفاهمات تتبدّل بحسب قوة الأطراف الإقليمية في كلّ فترة. وبالتالي، لن يُنتخب رئيسٌ للبلاد، ما لم تتوافق عليه قوتان أساسيتان تعملان في لبنان: إيران والولايات المتحدة. ولسخرية القدر، فإنّ البلاد التي لا تملك موارد طبيعية فعلية، أقلّه حتى تبيان حقائق الموارد النفطية والغازيّة في البحر اللبناني، والتي لا تملك موقعاً جيوبوليتيكاً حاسماً، تحوّلت إلى نقطة تجاذب بين طهران وواشنطن، على قاعدة أنّ "كل قطعةٍ في أيّ بازل يُكمل الصورة مهمة، ولو كانت ثانوية".
وهنا يتأرجح الدور اللبناني بين إكمال صورة أميركية أو أخرى إيرانية، وسيستمرّ هذا الواقع حتى تغيير المعادلات الداخلية التي أفسحت المجال لمثل هذا التورّط، بين طرفٍ آتٍ من خلف الأطلسي، وآخر من وراء جبال زاغروس. يقول الواقع إنّ المعادلات الداخلية هشّة، وغير مرتبطة بطبيعة نظام أو ميثاق، بل بتطلّع دائم للداخل اللبناني، بمجمل طوائفه، إلى الخارج، لنُصرته على طرفٍ لبناني آخر. لذلك، جرى خرق مواثيق دستورية عديدة، بسبب حالة انعدام الثقة. وأصبح "طبيعياً" الحديث عن تقسيم البلاد، في كلّ مرّة تصل الأمور إلى طرقٍ مسدودة. لكن لا أحد سيُقدم على تطبيق هذا التقسيم، حتى لو كان قادراً. لا يعود الأمر إلى وطنيةٍ ما، بل إلى حاجة المتخاصمين بعضهم لبعض، من أجل تمتين شبكة مصالحهم المبنيّة على ثلاثية طائفية - مناطقية - مالية. لا حزب يرغب في إلغاء الآخر، فغياب الخصم يعني ارتخاء البيئة الحاضنة، وتطلّعها إلى مرحلةٍ أكثر تحرّراً، تصل إلى حدّ عدم تأييدها الحزب المفترض أن "يحميها". والتحرّر في الحالة اللبنانية يعني الانطلاق من العصبية الطائفية المغلقة إلى مسارٍ أكثر إنسانية، وطبعاً من دون أن يتخلى أيّ فرد عن خصوصيته الدينية.
هل يمكن للبنانيين، في الحالة هذه، التمرّد على واقعهم؟ لن يقدروا على ذلك، ما لم تتوافر لديهم أمورٌ أساسية، بدءاً من فهم طبيعة الاشتباكات السياسية الحاصلة، والنظر إلى ما يحتاجونه فعلاً، أفراداً وبيئة ضيّقة، ثم، والأهم، الاستعداد لتضحيةٍ كبرى، حتى طيّ العِلم السياسي اللبناني المبني على استيلاد الخلافات، لا على إزالتها. وأيضاً لا بدّ من الاقتناع بأنّ الموروثات المتراكمة، والمتأثرة بمناخ البلاد الطبيعي، تُساهم حكماً في مدى حصول هذا التحوّل واحتمالات نجاحه.
في نهاية المطاف، سيُنتخب رئيسٌ ما، وسيكون متوافقاً عليه من دول القرار، وسيتّجه النواب الـ128 إلى البرلمان لانتخاب من يتوافق عليه الخارج. أما الحديث عن "لبنانية" الاستحقاق الرئاسي، فلا يُصرف إلّا بين أنصار الأحزاب، لا في الوقائع المجرّدة. ولأنّ التسوية ستحصل لا محال، فإنّ ما سيجري من عبثيةٍ قبل إقرارها ستكون جريمة مُضافة بحق اللبنانيين، خصوصاً إذا عُمّدت بالدماء، ولن تجد من يحاسَب عليها في النهاية، مثل الحرب اللبنانية والانهيار الاقتصادي وانفجار مرفأ بيروت.