كيف نفهم ما يجري في الولايات المتحدة راهناً؟

15 يناير 2021
+ الخط -

أصبح دونالد ترامب أول رئيس في تاريخ الولايات المتحدة يعزله مجلس النواب مرتين. ومن المحتمل أن يُسَجِّلَ، في الأيام والأسابيع القليلة المقبلة، سابقتين مهينتين أخريين في إرثه الرئاسي. الأولى، أن يكون أول رئيسٍ يدان فعلياً في مجلس الشيوخ. والثانية، وهنا المفارقة، أن يصدر حكم إدانته بعد انتهاء رئاسته في العشرين من شهر يناير/كانون الثاني الجاري. بمعنى أن إجراءات محاكمته ستبدأ خلال رئاسة جو بايدن. وبما أن الإدانة في مجلس الشيوخ، والتي تتطلب موافقة ثلثي أعضائه، تحمل عقوبة دستورية واحدة، الإقالة من الرئاسة، فإن ترامب لن يكون رئيساً حينها ليُقال، ولكن ذلك سيمكّن المجلس من التصويت مرة أخرى، بالأغلبية البسيطة (50+1)، لمنعه من الترشّح في المستقبل لأي منصب عام، وهو ما يعني حرمانه من الترشّح للرئاسة عام 2024. طبعاً، تحقيق الثلثين للإدانة في مجلس الشيوخ ليس أمرا سهلا (صوّت عشرة جمهوريين فقط من أصل 211 في مجلس النواب لعزل ترامب)، ولكنه ليس مستحيلاً هذه المرة، خصوصاً مع صدور إشارات عن زعيم الجمهوريين في المجلس، ميتش ماكونيل، أنه يفضل إدانة ترامب والتصويت على منعه من الترشح مستقبلاً لتخليص الحزب الجمهوري منه. هل ينضم سبعة عشر عضواً جمهورياً في مجلس الشيوخ إلى خمسين ديمقراطياً لإدانة ترامب؟ من الصعب الجزم بذلك.

الترامبية تيار قائم وجارف، سواء في الحزب أم في الولايات المتحدة

كثيرون من الذين يودّون التخلص من وطأة ترامب الثقيلة على الجمهوريين والجمهورية يدركون أنه ليس شخصاً، وأن الترامبية تيار قائم وجارف، سواء في الحزب أم في الولايات المتحدة. وعلى الرغم من نجاح المؤسسات والقيم والأعراف والتقاليد الأميركية في كبح جماح الرجل وتياره، إلى الآن على الأقل، وهي شهادة لعراقة الديمقراطية ورسوخها هناك، إلا أن هذا لا ينبغي أن يحجب رؤية الشقوق التي لحقت بها (الديمقراطية الأميركية)، وضعضعت بنيانها وأركانها، وهو ما يجعلها بحاجةٍ إلى إعادة ترميم، الأمر الذي لن يتم من دون توافق فوق حزبي ووطني. وإليك هنا بعض التفكيك والتحليل.

يوم الأربعاء الماضي، وهو اليوم الذي تمَّ فيه توجيه لائحة الاتهام لترامب في مجلس النواب (عزله) بتهمة التحريض على التمرّد، نشر استطلاع للرأي صادر عن صحيفة بوليتيكو والمركز المتخصص بتحليل المعطيات، مورنينغ كونسلت. جرى الاستطلاع بعد الاقتحام العنيف والدموي للكونغرس من أنصار الرئيس يوم السادس من الشهر الجاري. صحيح أن النتائج أبانت عن تراجع التأييد الشعبي لترامب بعشر نقاط عما كان عليه في الشهر الماضي (ديسمبر/كانون الأول) إلا أنه مع ذلك بقي عند نسبة حرجة (34%)، إذا ما أخذنا بالاعتبار كل ما حدث قبل إجرائه. اللافت أن 75% من الحزب الجمهوري قالوا إنهم لا زالوا يؤيدون ترامب، وهي وإن كانت أقل من نسبة الـ 83% الذين كانوا يؤيدونه الشهر الماضي، إلا أنها مع ذلك تبقى مرتفعة جداً. هذا هو أحد أهم أسباب تردد كثيرين من الأعضاء الجمهوريين في الكونغرس في التصويت لصالح عزل ترامب وإدانته. إنهم يخشون من أن يدفعوا ثمناً سياسياً كبيراً في الانتخابات التمهيدية القادمة للحزب، وكذلك العامة، عامي 2022 و2024. سبب آخر عبر عنه كثيرون من هؤلاء، خشيتهم على سلامتهم وسلامة عائلاتهم من المتطرّفين اليمينيين العنيفين داخل قاعدة ترامب، الذين لم يخف بعضهم نواياهم بإلحاق الأذى بكل من "يخون" رئيسهم ورمزهم.

ثمة قلق كبير من وجود متعاطفين مع ترامب والمليشيات اليمينية المسلحة في جهاز شرطة الكونغرس، والأجهزة الأمنية المختلفة، وحتى الجيش

الأخطر هنا هو ذلك القلق الكبير من وجود متعاطفين مع ترامب والمليشيات اليمينية المسلحة في جهاز شرطة الكونغرس، والأجهزة الأمنية المختلفة، وحتى الجيش. ثمَّة تحقيقات تجري الآن حول تورّط بعض عناصر شرطة الكونغرس في تمكين مثيري الشغب من اقتحامه وتسهيل مهمتهم، بل وإرشادهم إلى مكاتب أعضاء معينين فيه للاعتداء عليهم، وهو الأمر المتهم به نواب جمهوريون كذلك. أيضاً، ثمَّة تغييراتٌ تجري في جهاز الحرس الرئاسي السري الخاص، وذلك بهدف تطهيره من عناصر يشك أن لديها ولاءً شخصياً لترامب، وليس بالضرورة للمؤسسة الرئاسية، بغض النظر عن شاغلها. كما تشهد الولايات المتحدة نقاشاً حاداً حول أسباب عدم مشاركة مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) المعلومات التي كانت لديه عن وجود نوايا مسبقة لدى المتظاهرين في واشنطن اقتحام الكونغرس وإثارة أعمال شغب. ولا يتردّد كثيرون في اتهام الأجهزة الأمنية والاستخباراتية بأن تعاملها المتهاون مع مثيري الشغب ومرتكبي أعمال العنف الأخيرة مردّه أنهم بيض، أي أنهم "عَصَبُ أميركا"، حسب مقاربة العنصريين.

إلا أن ذلك كله يهون أمام التوجسات من حدوث اختراق في المؤسسة العسكرية، وهو ما اضطر هيئة الأركان الأميركية، بكل قيادات فروعها، وبرئاسة رئيس هيئة الأركان، الجنرال مارك ميلي، إلى إصدار بيانٍ بعد حادثة اقتحام الكونغرس، تذكر فيه كل منتسبي القوات المسلحة بواجبهم بالالتزام بالدستور والدفاع عنه ونبذ التطرّف، وتحذرهم من الدعوة إلى الفتنة والتمرّد والعصيان. وجاء في البيان غير المسبوق: "كأفراد في القوات المسلحة، علينا تجسيد قيم الأمة ومثلها. نحن ندعم الدستور وندافع عنه. أي عمل لتعطيل العملية الدستورية ليس فقط ضد تقاليدنا وقيمنا وقسمنا؛ بل إنه مخالفٌ للقانون".

يتبنّى قادة سابقون في المؤسسة العسكرية من أصحاب الرتب الرفيعة خطاباً عنصرياً، ويؤمنون بنظريات المؤامرة، ويؤيدون استخدام القوة العسكرية للتصدّي لعدو مُتَخَيَّل

تستند المخاوف فيما يتعلق بالمؤسسة العسكرية إلى جملة من الأسباب، أهمها: أولاً، إن عدداً ممن اقتحموا مبنى الكونغرس جنود سابقون. وتكفي الإشارة هنا إلى أن آشلي بابيت، التي قتلها شرطي من قوة أمن الكونغرس، عند محاولتها اقتحام إحدى قاعاته التي كان يحتمي فيها نواب، هي ضابط سابق في سلاح الجو الأميركي. وهناك آخرون مثلها من المقتحمين الذين تمَّ اعتقال بعضهم، ممن يؤمنون بنظريات المؤامرة التي تنشرها حركات مثل "QAnon"، ومفادها بأن ترامب يتصدّى لأركان الدولة العميقة من عبدة الشيطان وممارسي الجنس مع الأطفال.

ثانياً، منذ سنوات تحذّر مؤسسات أميركية ترصد التطرّف على الإنترنت، كـ"مركز مكافحة الفقر الجنوبي"، من علاقات مشبوهة لعسكريين كثيرين سابقين مع مجموعات كراهية ومليشيات تؤمن بتفوق العرق الأبيض. ويطالب المركز منذ شهر فبراير/شباط 2020 أن تفحص الفروع العسكرية المختلفة خلفيات منتسبيها والمتقدّمين إليها للتوثق من عدم تبنّيهم معتقدات قومية بيضاء، ومن ذلك مراجعة حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وإنشاء قاعدة بيانات للوشوم، وإجراء فحوصات نفسية لهم. وقد وافقت القيادة العسكرية في الأيام القليلة الماضية على التعاون مع جهاز الحرس الرئاسي السري للقيام بفحص أعمق وأوسع لخلفيات عشرين ألف جندي من الحرس الوطني، مكلفين بتأمين واشنطن قبل مراسم تنصيب بايدن وخلالها.

تمر الولايات المتحدة بمرحلة اختبار عسير لرسوخ مؤسساتها وصلابة ديمقراطيتها وتماسك نسيجها الاجتماعي

ثالثاً، ليس خافياً أن بعض قادة المؤسسة العسكرية السابقين من أصحاب الرتب الرفيعة يتبنون خطاباً عنصرياً، ويؤمنون بنظريات المؤامرة، ويؤيدون استخدام القوة العسكرية للتصدّي لعدو مُتَخَيَّل، هو بعض مؤسسات الحكم والمسؤولين في الدولة. من هؤلاء الجنرال مايكل فلين، مستشار الأمن القومي الأول لترامب، والذي طرد من منصبه بعد أسابيع قليلة، ودين قضائياً، قبل أن يعفو عنه ترامب في شهر نوفمبر/تشرين الماضي. فلين هذا أنهى خدمته العسكرية عام 2014 بما يوازي رتبة فريق (ثلاثة نجوم)، وهو من أشار على ترامب، قبل أسابيع، بإعلان التمرّد وتعليق الدستور مؤقتاً ونشر قوات الجيش في المدن والولايات الأميركية، وإيكال مهمة الإشراف وإعادة الانتخابات في الولايات التي يزعم ترامب أنه جرى التلاعب في نتائجها إلى الجيش.

باختصار، تمر الولايات المتحدة بمرحلة اختبار عسير لرسوخ مؤسساتها وصلابة ديمقراطيتها وتماسك نسيجها الاجتماعي، وهذا الاختبار لن ينتهي قريباً، إنما سيمتد سنوات طويلة. وعلى الرغم من أنه تمَّ "إلغاء" ترامب، إلى حد كبير، عبر حظره في وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن ذلك لا يعني نهايته بالضرورة، وقطعاً لا يعني نهاية التيار العريض والغاضب الذي يعبر عنه. قد يجد ترامب طريقاً إلى منصّات تواصل اجتماعي بديلة ليبث حنقه، وقد يذهب إلى السجن، بل وقد يعلن الإفلاس بعد أن تدمرت علامته التجارية، إلا أن الترامبية في أميركا باقية، ولو إلى حين، وستكون أولى ساحات معاركها القادمة الحزب الجمهوري نفسه الذي قد يشهد انقساماً أو تطهيراً لمؤسسته التقليدية أو لليمين المتطرّف الذي تضاعف نفوذه فيه.