لا لوصاية دولية على سورية
بعد 14 عاماً من المعاناة والألم، قلب السوريون، في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، الطاولة على القوى الخارجية التي حوّلت بلادهم إلى ساحة صراع إقليمي ودولي، وأطاحوا، من دون مساعدة خارجية تذكر، أحد أسوأ الأنظمة التي عرفها التاريخ الإنساني المعاصر. وإذا تركنا حليفي النظام (روسيا وإيران) جانباً، فقد بدا واضحاً أن بعض الأطراف الإقليمية والدولية كانت تسعى إلى بقاء الأسد، ليس حبّاً فيه، ولكن تخوفاً من البديل (ديمقراطياً كان أو إسلاميّاً، أو الاثنين معاً)، وينطبق هذا الكلام على بعض دول الجوار العربية، كما ينطبق على إسرائيل والولايات المتحدة التي كانت تفاوض الأسد على بقائه، في مقابل فك تحالفه مع إيران وحزب الله.
أما وقد أسقط السوريون الأسد، ونظامه، فقد تداعت قوى إقليمية ودولية، بعد أقل من أسبوع، لعقد اجتماع في العقبة في محاولة لاستعادة السيطرة على الوضع السوري عبر السياسة، بعد أن فقدتها من خلال القوة، وقد وجد هؤلاء ضالّتهم في قرار مجلس الأمن 2254، للتحكّم بمسار التغيير ومخرجاته، طالما أنهم لم يتمكّنوا من منعه في المقام الأول. يسير جزء من النخب السياسية السورية في هذا التوجه، لأنها تخشى التهميش والإقصاء من الإدارة الجديدة في دمشق. والواقع أن هؤلاء يعمدون، من حيث يدرون أو لا يدرون، إلى تكرار الأخطاء نفسها التي سادت أيام العسكرة عندما أدّت التدخلات الخارجية في دعم الفصائل المسلحة على الأرض إلى حالة من الفوضى والزبائنية والارتزاق، أساءت إلى القيم التي من أجلها قامت الثورة، وفيه شبه أيضاً بمحاولات السيطرة على الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية عبر التوسّعات المختلفة التي تعرض لها.
من الناحيتين القانونية والسياسية، يعدّ القرار 2254 ساقطاً، لأن هيئة الحكم الانتقالي التي كان يُفترض أن تستند في تشكيلها إليه لم تعد ممكنة بعد انهيار النظام وفرار رأسه، وتولي جزء من المعارضة مقاليد الحكم، ولن تفيد محاولات إحيائه أو التمسّك به إلا في إسعاف القوى الدولية بأداة تساعدها في تشكيل مسار العملية السياسية في سورية، وفق مصالحها. هذا أمرٌ يجب ألا يسمح به السوريون، فهم ناضجون كفاية لقيادة عملية الانتقال والتغيير، بعد أن تمكّنوا وحدهم من إطاحة الأسد. لكن، وحتى نقطع الطريق على المحاولات الخارجية لفرض وصاية على سورية، وحتى نمنع استغلال هذه القوى لتعطش بعض النخب السورية إلى السلطة، حتى لو أدّى ذلك إلى استدعاء الخارج أو الاستقواء به، ينبغي على الإدارة الجديدة في دمشق أن تعيد النظر بطريقة مقاربتها المرحلة الانتقالية، سوف يكون من الخطأ الفادح محاولة الاستئثار بالسلطة، أو التفرّد بها بزعم أن من أسقط النظام أولى بالحكم مكانه، فهذا يمثل وصفة مجرّبة ناجحة لاستدعاء التدخلات الخارجية. المقاربة الجديدة يجب أن ترتكز على إشراك أكبر عدد ممكن من القوى السياسية السورية في ترتيبات المرحلة الانتقالية. ولأن عامل الوقت لا يسمح بعقد مؤتمرات حوار وطني، غير مجدية غالباً على ما دلت عليه تجارب السنون السابقة، أو تشكيل لجان لكتابة أو تعديل الدستور بمشاركة واسعة، فقد يكون البديل المختصر والآمن لمرحلة انتقالية سلسة وهادئة، هي إعلان العمل بدستور عام 1950، وهو دستورٌ يلقى قبولاً لدى فئات واسعة من السوريين، وذلك لمرحلة انتقالية مدّتها عامان، يجري خلالها التحضير لانتخاب جمعية تأسيسية تتولّى كتابة دستور جديد، وترتيب استفتاء عليه، وإصدار قانون أحزاب وقانون انتخابات، وتحديد موعد لها بحسب النظام السياسي الجديد الذي تقرّه الجمعية التأسيسية (رئاسي، شبه رئاسي، برلماني).
تفيد خريطة الطريق هذه، من جهة، في الإجابة عن سؤال شرعية الحكم الجديد، وتسمح، من جهة ثانية، بإشراك أوسع طيف ممكن من القوى السياسية في العملية الانتقالية، وتغلق الباب أمام التدخّلات الخارجية والوصاية الأممية، التي يسعى بعضهم إلى وضع سورية تحتها لتشكيل نظامها السياسي الجديد، وتقطع نهائياً مع العهد البائد، وأي محاولات للالتفاف على إرادة الشعب الذي تقع عليه مسؤولية حماية المنجز العظيم المتمثل بإسقاط النظام، ومنع نشوء ديكتاتورية جديدة. في الأثناء، تستمر حكومة تصريف الأعمال في التركيز على مهام استعادة النظام العام، وسحب السلاح وتوحيده بيد الدولة، والإشراف على استعادة الخدمات وتحسينها، وإعادة الإعمار، وفتح مسار العدالة الانتقالية.