لا هي اتفاقيات سلام ولا هي تاريخية
الحدث السريع الذي جرى في جنوب فلسطين على حدود قطاع غزة، في أثناء توقيع معاهدتي تطبيع مع إسرائيل في واشنطن، بعث رسالة قوية وذات مغزى، أن الأمن والسلام في هذه المنطقة كان، وما زال وسيبقى، بيد الفلسطينيين. وعلى الرغم من بهرجة المسرحية التي عُرضت أمام البيت الأبيض، فإنها جاءت أيضاً لتؤكد المقولة الشهيرة، إن التاريخ يكرّر نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة، وأخرى على شكل مهزلة.
كل معاهدات التطبيع السابقة، واللاحقة إن جاءت، سعى إليها تحالف نتنياهو وترامب وفريقه برئاسة كوشنر لتحقيق ثلاثة أهداف: ترويج صفقة القرن، بكل ما تعنيه من تصفية للحقوق الوطنية الفلسطينية، وترسيخ لنظام الاحتلال والأبرتهايد الإسرائيلي. تهميش القضية الفلسطينية، وعزل الشعب الفلسطيني، والادّعاء بأن التطبيع مع بعض الأنظمة العربية يعوّض عن السلام الحقيقي الذي لن يتحقق إلا بتلبية حقوق الشعب الفلسطيني. تقديم مسرحية لدعم ترامب المهدّد بالسقوط في الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة، ونتنياهو المهدّد بالمحاكمة في أربع قضايا فساد، وجهت له الاتهامات بها، والذي استبق توقيع المعاهدتين بتصريحاتٍ قال فيها لا لدولة فلسطينية، وإن القدس التي ضمها ستبقى عاصمة موحدة لإسرائيل، وفلسطين هي دولة اليهود فقط، وعلى الفلسطينيين قبول العيش في معازل تحت السيادة الإسرائيلية، أي في إطار نظام أبارتهايد، ولا عودة للاجئ فلسطيني واحد. واستكمل ذلك بالتلويح بإمكانية ممارسة تطهير عرقي جديد ضد الفلسطينيين. أما الرئيس الأميركي فقد رفض، عندما سُئل عن الدولة الفلسطينية، أن يجيب، ورفض أن ينطق اسم "دولة" للفلسطينيين. وعندما سُئل عن ضم الاحتلال أراضي فلسطينية جديدة لإسرائيل، أشاح بوجهه، ولم ينطق بحرف. وكل ما استطرد في تكراره أنه قطع المساعدات عن الفلسطينيين، خصوصا عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، التابعة للأمم المتحدة، ملوّحا بمزيدٍ من الضغوط على الفلسطينيين، لإجبارهم على القبول بالاستسلام لصفقة القرن.
لم يعد بإمكان أحد ادّعاء أن الضم الإسرائيلي لأراضي الضفة الغربية قد توقف، فهو جار على الأرض يومياً
لم يعد بإمكان أحد ادّعاء أن الضم الإسرائيلي لأراضي الضفة الغربية قد توقف، فهو جار على الأرض يومياً، خصوصا أن معاهدتي التطبيع وقعتا بعد ضم القدس والجولان العربي المحتل، وبعد المباركة الأميركية لذلك الضم، ونقل السفارة الأميركية لدى الاحتلال إلى القدس. ولا علاقة إطلاقاً بين "مسرحية" البيت الأبيض وموضوع السلام، فالنتيجة الأولى لما جرى كانت تقوية معسكر اليمين الفاشي العنصري المتطرّف في إسرائيل، والذي يمثله رئيس حزب "البيت اليهودي"، نفتالي بينيت، الذي يعتبر نتنياهو المتطرّف معتدلاً. وحسب استطلاعات الرأي، سيحصل معسكر بينيت على 22 مقعداً لو جرت انتخابات جديدة في إسرائيل، بعد أن لم يحصل سوى على ستة مقاعد في انتخابات مارس/آذار الماضي، وهو معسكر ديني متطرّف يرفض مبدأ السلام مع الفلسطينيين، والدولة الفلسطينية، ويصرّ على ضم كل الضفة الغربية التي يسميها "يهودا والسامرة" ويرفض التنازل عن أي شبر فيها. ومن ناحية أخرى، تصاعدت، فور توقيع الاتفاقيتين، عمليات الاستيطان الاستعماري في الضفة الغربية، واستشرت الاعتداءات على القدس وكل الأراضي المحتلة.
الحقيقة الراسخة أن جوهر الصراع ومفتاح السلام في الشرق الأوسط كان، وما زال، قضية فلسطين.
القضية الحقيقية التي ظهرت بالتوازي مع مسرحية التطبيع و"السلام" كانت صفقات السلاح والتسلح الجديدة، والتي ستحقق من ورائها الولايات المتحدة والصناعات العسكرية الإسرائيلية أرباحا كبيرة، والتبشير بتصعيد الصراعات الدائرة في منطقة الخليج وغيرها، بين أطراف عربية، وداخل بلدان عربية، وذلك كله لا يحقق سلاما، ولا يخدم إلا طموح إسرائيل للهيمنة المطلقة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً على المنطقة بأسرها، وأخذ دول عربية عديدة رهينة لمنظومات التجسس والأمن الإسرائيلية.
وتبعت ذلك الاحتفال تصريحات السفير الأميركي في إسرائيل، ديفيد فريدمان، عن فرض قيادات متواطئة على الفلسطينيين، وهي تصريحات وقحة، وتمثل وسائل ضغط رخيصة وتافهة، وتؤكد أن هذا السفير لم يكن يوماً إلا موظفاً لدى نتنياهو وتياره العنصري المتطرّف. وما تناساه فريدمان أن لا شرعية في فلسطين لأي شخص إلا الشرعية الوطنية والديمقراطية، ومن تهاون في حقوق الشعب الفلسطيني أو تواطأ مع أعدائه لن يحظى يوماً بقيادته. وما تناساه منظمو مسرحية التطبيع في البيت الأبيض أن اتفاقات سابقة عُقدت من قبل بين دول أكبر وأهم وإسرائيل، ولم تنتج تطبيعاً بين الشعوب العربية وإسرائيل، كما لم توقف نضال الشعب الفلسطيني، ولا استطاعت تجاوز الحقيقة الراسخة أن جوهر الصراع ومفتاح السلام في الشرق الأوسط كان، وما زال، قضية فلسطين.
هناك شعب فلسطيني ضحّى بالكثير، ولن يتنازل عن كرامته الوطنية، أو ينكّس رايات كفاحه
وإذا كان هناك أمر إيجابي في كل ما جرى فهو أنه أوجد تحدّيا أدّى إلى رص صفوف الفلسطينيين، في وحدة غير مسبوقة، منذ انهيار حكومة الوحدة الوطنية ونشوء الانقسام الداخلي البغيض عام 2007. وحدة كاملة في رفض "صفقة القرن" ومشاريع التطبيع، ووحدة تتطور تدريجياً في تفعيل المقاومة الشعبية الفلسطينية وحركة المقاطعة وفرض العقوبات على نظام الاحتلال والأبارتهايد الإسرائيلي، ويمكن أن تتطوّر لتبنّي استراتيجية وطنية كفاحية موحّدة.
كل أبواق الإعلام المنحازة للرواية الإسرائيلية، وكل محاولات تبرير التطبيع الذي جرى، لن تستطيع إخفاء الحقائق الأساسية: هناك احتلال إسرائيلي هو الأطول في التاريخ الحديث، وهناك نظام أبارتهايد إسرائيلي هو الأبشع في تاريخ البشرية، وهناك جنود ومتطرّفون إسرائيليون يدنسون كل يوم المسجد الأقصى، والمقدّسات الإسلامية والمسيحية، وهناك شعب فلسطيني ضحّى بالكثير، ولن يتنازل عن كرامته الوطنية، أو ينكّس رايات كفاحه.