لبنان .. أزمة سياسة ومصارف
أفرزت نتائج الانتخابات النيابية أخيرا في لبنان مستوىً آخر من الركود السياسي، وفشل الشارع في أن يحدّد لونا مميزا يكون عنوانا للمرحلة، فقد انقسمت الأصوات مناصفةً بين فريقين، ولم يستطع التيار الثالث الذي أفرزته ثورة تشرين أن يشكّل قوةً قادرةً على المنافسة، وقد أظهرت سلوكياته ضعفا بعد أن اقتصر دوره على تكرار أصوات أحد الطرفين، أو مجرّد إطلاق صيحات التذمر، كما بيّنت انتخابات المجلس النيابي ولجانه الرئيسية عدم ثبات الأرضية السياسية لبعض الكتل التي تتقاطع مصالحها مع هذا الطرف أو ذاك، ما أعطى مجموعة حزب الله وحركة أمل فرصةً للاستفادة من هذا التناقض وتمرير مرشّحها لرئاسة المجلس النيابي، وهو المنصب الذي ما زال يجلس فيه نبيه برّي منذ 30 عاما، سيُضاف إليها أربعة أعوام جديدة، إذا قيّض له أن يكمل هذه الولاية، ولأن منصب رئيس الحكومة هو المنصب التنفيذي الرئيسي فقد يكون قادرا على اتخاذ القرارات، في ظل التوتر المزمن في الحكومة وفترات الفراغ وتسيير الأعمال التي قد تكون أطول من فترات الحكومات التي تمارس عملا دستوريا طبيعيا. وتضاف الآن معضلة جديدة، انتخاب رئيس الجمهورية، وقد شارفت فترة ميشال عون على النهاية، وبقي أقل من ثلاثة أشهر أمام المجلس النيابي، بتناقضاته السياسية الحادّة، ليختار رئيسا جديدا.
منذ عشرينيات القرن الماضي، واختيار رئيس للبنان يشكّل مناسبة للتدخل من الخارج، وهذه الحالة مستمرة منذ قيام دولة لبنان، ووضع شارل دباس على كرسي الرئاسة حتى وصول الرئيس الحالي ميشال عون، الذي جرى انتخابه بعد فترة فراغ طويلة تجاوزت العامين ونصف العام، تعطّل خلالها المجلس النيابي إلى أن "توافقت" في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2016، بعض دول الإقليم والعالم مع بعض القوى المحلية، على اختيار هذه الشخصية، وحدث ذلك في ذروة الابتزاز الإيراني لنظام الرئيس باراك أوباما الذي كان يلهث خلف الاتفاق النووي. واليوم، لن تشكّل الانتخابات نقطة شاذّة، وستستغلّ القوى الخارجية المتداخلة في الشأن اللبناني هذه الفرصة لفرد العضلات السياسية، وإثبات أنها ما زالت قادرةً على الفعل في الساحة اللبنانية، فلدى كل من سورية والسعودية وإيران والولايات المتحدة وفرنسا، وربما إسرائيل، أعوانٌ في الداخل، وبعضها يمتلك أسلحة فتّاكة تمكّنه في فرض رأيه بالقوة، كحزب الله. مع ذلك، لا بد من الاحتفاظ بالشكليات الديمقراطية، ولا بد من الحصول على أصوات 65 نائبا، وهو عدد الأصوات المطلوب للفوز بكرسي الرئاسة بحسب اتفاق الطائف، باعتبار أن الرئيس لن ينجح من الجولة الأولى بفارق الثلثين.
يعيش العالم اليوم مرحلة أخرى من التجاذب، فهناك رغبة في الوصول إلى اتفاق نووي جديد، إلى جانب تقارب إيراني روسي نوعي، وقد يكون له ملحق من الصين التي تظهر أنيابا عسكرية في بحر الصين، وهي بحاجةٍ إلى دعم دبلوماسي روسي، لطالما تمّت مبادلته بين الدولتين، والانتخابات اللبنانية ستجري ضمن هذه الظروف التي يُضاف إليها حالة داخلية من عدم التوازن والمعاناة المعيشية الطاحنة التي تسبّبت، قبل أيام، بظهور شخص، وقد تحوّل إلى "إرهابي"، واختطف موظفين وعملاء في بنك، ليأخذ جزءا من مدّخراته، وهو مشهد معبر يعكس ضعف المؤسسات المصرفية وحتى الحكومية، لصالح مؤسّسات موازية تعتمد الولاء غالبا إلى الخارج، وبمرجعيات طائفية أو سياسية. يمكن أن يتحوّل منصب رئاسة الجمهورية إلى حالة شاغرة ولفترة قد تفوق الثلاثين شهرا التي فصلت رئاسة ميشال سليمان عن رئاسة عون، فالمناخ يكرّر ذاته، والمشكلة تعيد إنتاج نفسها، ولم تنفع الانتخابات النيابية بشيء، ولا ثورة 17 تشرين الأول استطاعت أن تغيّر في المعادلة، فيما يبدو أن هناك خطأ بنيويا يخرج إلى العلن عند كل استحقاق لبناني، وربما يعود تاريخ هذا الخطأ إلى ظروف إنشاء لبنان نفسه.