لبنان تحت حكم الطغيان
احتشد، قبل أيام، مئات من شباب العراق في ساحة التحرير ببغداد، محتفين بالذكرى الرابعة لانتفاضة تشرين الشعبية/ الشبابية (2019) التي مثلت أهم تحرّك شعبي وطني وغير طائفي في العراق منذ الاحتلال وسقوط نظام صدّام حسين. فهل سيجرؤ اللبنانيون فيحتشدوا في ساحات بيروت بعد أيام للاحتفاء بمرور أربع سنوات على انتفاضة 17 تشرين؟ وهل سيكون ذلك متاحا لهم بعد جريمة الاعتداء الهمجي الفظّ على "مسيرة الحرّيات" في وسط بيروت قبل أيام، وعلى مرآى من القوى الأمنية اللبنانية في المكان؟
جاءت المسيرة للردّ على الحملة القمعية المتواصلة التي مارستها أجهزة الدولة القضائية والأمنية بحقّ إعلاميين وفنانين ومدونين وناشطين على مدى الأشهر الماضية، من اتهامات واستدعاءات وتوقيفات وتحقيقات ومحاكمات على خلفية منشورٍ من هنا أو شريط مصوّر من هناك في محاولة من هذه الأجهزة لفرض الرقابة الذاتية الصارمة على الناس، وبالتالي، تحريم (وتجريم) التعبير عن الآراء وحتى النيات، وكان القول إن لبنان واحة للحريات لا يقوم بدونها وهي مكفولة بالدستور الذي تضمّنت مقدمته الالتزام بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
حمّلت أبواق قوى السلطة الإعلامية، وفي إطار التحريض على أي تحرّك شعبي سلمي، هذه المسيرة بعدا وحيدا كانت قد شيطنته، وهو "الدفاع عن حقوق المثليين"، وذلك لتهييج الشارع ضدّها، فكان الاعتداء الهمجي على الناشطين والناشطات المشاركين/ات، وحتى على بعض الإعلاميين الحاضرين لتغطية الحدث، وعلى مرأى وربما بمشاركة من قوى الأمن المولجة بحماية المواطنين.
عرّف المؤرّخون حكم الطغيان أنه يمارس البطش خارج أية قوانين. وفي لبنان نعيش الحالة بأدقّ تفاصيلها
هذا الإرهاب المنفلت الذي تحرض عليه قوى السلطة وتغضّ الطرف عنه، بل تحميه وأحيانا تشارك فيه أجهزتها الأمنية والقضائية الرسمية، يجد من يشعرون بالحصانة الكافية لممارسته على الأرض على شكل جماعاتٍ غير نظاميةٍ، وبطرق وأساليب غير شرعية ومخالفة للقوانين المرعية، فهذه مجموعة تستبيح صالة مكتظّة بالروّاد، وتحطّمها وتعتدي على من فيها، وتلك مجموعة تهاجم حفلا وتعتدي على من فيه وتطردهم.. وتلك تمارس دور المحقّق فتقتحم مستشفى وتهدّد وتتوعّد وتحقق في محتويات إحدى عياداته. ولم تتأمن تلك الحصانة حيال القضاء والقانون وأجهزة الأمن التي تحفز هذه المجموعات على ممارسة اعتداءاتها المتكررة بحقّ المواطنين إلا من خلال رعاية القوى المتنفذة هذه المجموعات، وفي مقدمة تلك القوى حزب الله.
كثيرا ما يردد هذه الأيام عبارة "سقط القديم والجديد لم يولد بعد" المتابعون لتحوّلات واقع الأنظمة العربية والتحرّكات الشعبية في بلادنا، وينطبق هذا على الوضع اللبناني، حيث تمكّنت انتفاضة 17 تشرين الأول (2019) من إسقاط نظام ائتلاف القوى المافيوية المسيطر بقيادة حزب الله (يمكن تأريخ هذا السقوط بلحظة إعلان رئيس الحكومة سعد الحريري استقالة حكومته في 29/10/2019، أي بعد 12 يوما على انطلاق الانتفاضة على الرغم من رفض زعيم جزب الله إسقاط الحكومة، أو بعدها بأشهر، حين تمكّن المتظاهرون منع جلسات البرلمان من الانعقاد). ولكن هذه الانتفاضة لم تتمكّن من تقديم البديل. حتى أن انتخاب نواب جدد محسوبين على الانتفاضة قد ابتلعهم النظام المتهالك في أقل من سنة من انتخابهم، وها نحن نعيش في برزخ بين مرحلتين محكومتين بالطغيان الواقعي الذي يقوده عمليا حزب الله.
قد يجادل بعضهم أن النظام لم يسقط، بل ازداد قوّة وبطشا وفجاجة عن ذي قبل. ولكن من ينظر في حقيقة هذا البطش، وفي واقع النظام المتهالك الذي لم يتمكّن من إعادة إنتاج مؤسّسات سيطرته "الدستورية"، بدءا من انتخاب رئيس للجمهورية، وصولا إلى شغور مناصب رئيسية أخرى في مؤسّساته تلك، إضافة إلى تعطّل شبه كامل لكل مرافق الدولة، وخصوصا المنتجة منها، يرى أن ما ندّعيه صحيح ولا لبس فيه. أما عن انتفاضة 17 تشرين، فقد فشلت في تقديم البديل، ما انعكس عليها بشكل مدمّر ماديا ومعنويا، وعلى قوى النظام، في حالة التوتر التي تعيشها في ظل أزمتين متلازمتين متزامنتين: أزمة تحلّل النظام المتهالك من جهة والأزمة الاقتصادية المعيشية المالية والنقدية التي أورثها نظامُها للمجتمع كله.
كيف سيواجه اللبنانيون الطغيان، إن لم يعوا ويتّحدوا فيستعيدوا لحظة "17 تشرين"، ولكن بمشروع بديل، مشروع المواطنة الحرّة والمساواة ودولة القانون والمؤسّسات
عرّف المؤرّخون حكم الطغيان أنه يمارس البطش خارج أية قوانين. وفي لبنان نعيش هذه الحالة بأدقّ تفاصيلها، حيث تتشكّل قوى قمعية غير نظامية وغير قانونية، لتتسيد الساحة المجتمعية بدون أية ضوابط، ولتمارس همجيتها على كل من تحسبه أو تشتبه أنه غير مؤتلف مع نظرتها إلى الأمور، وعلى مرآى أجهزة الدولة الأمنية والقضائية التي تغضّ الطرف أو حتى تتفرّج، من دون أن تُبدي أية ردّة فعل حيال جرائمها، هذه الجرائم التي تحرّض عليها وتذكيها قوى النظام المتداعي وأدواته المختلفة السياسية والطائفية والمذهبية، وعبر وسائل إعلامية ومواقع وصفحات الكترونية يهيمن عليها حزب الله والقوى المتحالفة معه أو التابعة له، ربما بانتظار معطياتٍ وظروفٍ إقليمية ودولية تتيح له صياغة نظام بديل يمكّنه من تنفيذ مشروعه السياسي المضمر منذ تشكله على أنقاض البلاد، وليس فقط على أنقاض النظام الحالي المتهالك.
كيف سيواجه اللبنانيون هذا الطغيان، إن لم يعوا ويتّحدوا فيستعيدوا لحظة "17 تشرين"، ولكن بمشروع بديل، مشروع المواطنة الحرّة والمساواة ودولة القانون والمؤسّسات، تحمله وتحمي حملته قوى منظمّة وملتزمة بأهدافه وسياقاته؟ وحتى ذلك الحين، لا تخاطروا بإحياء ذكرى 17 تشرين!