لبنان في عين العاصفة مجدّداً
أثار اغتيال عالم الذرة الإيراني، محسن فخري زادة، في طهران، مخاوف جدّية في لبنان، من احتمال استغلال إسرائيل الفترة المتبقية من ولاية إدارة دونالد ترامب، للقيام بعملية مشابهة في لبنان، يمكن أن تجرّ كارثة على لبنان بأكمله، وتدفع به إلى الهاوية التي يسير إليها منذ أشهر بخطى متسارعة.
التخوف في محله، ولا سيما مع ارتفاع وتيرة التهديدات الإيرانية بالانتقام من إسرائيل التي تتهمها إيران بأنها وراء عملية الاغتيال، وحال الاستنفار العام لدى كل حلفاء إيران في المنطقة، وفي مقدمتهم حزب الله في لبنان. وتزامن هذا مع تعثر المفاوضات غير المباشرة بين لبنان وإسرائيل على ترسيم حدودهما البحرية، ووصولها إلى حائط مسدود، وانسداد الأفق أمام تشكيل حكومة جديدة برئاسة سعد الحريري، لأسباب داخلية وخارجية في آن، مع تكاثر الحديث عن موجة جديدة من العقوبات الأميركية يمكن، بحسب مصادر إعلامية أميركية، أن تطاول المصرف المركزي ومصارف أخرى وكيانات وشخصيات قد يكون بعضها مقرّباً من الإدارة الأميركية.
في هذه المرحلة الرمادية والضبابية التي تمر بها المنطقة، وفي ظل حال الانهيار الشامل الذي يشهده لبنان حالياً، هل يمكن أن تُقدم إسرائيل، في هذه الفترة، على عملية أمنية كبيرة في لبنان؟ وهل يمكن أن يكون مثل ذلك مجدياً في حسابات الربح والخسارة؟ منذ شهر يوليو/ تموز، أعلن الجيش الإسرائيلي حالة التأهب القصوى على الحدود مع لبنان، بعد تهديدات الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، بالانتقام لمقتل أحد عناصر الحزب في هجوم إسرائيلي بالقرب من دمشق، وإعلانه يومها أن معادلة الردع مع إسرائيل باتت تشمل سورية، ومقتل أي عنصر من حزب الله في غارة إسرائيلية في سورية سيرد عليه الحزب بعملية انتقامية، تؤدّي إلى مقتل جندي إسرائيلي.
ثمن أي عملية أمنية إسرائيلية ضد حزب الله في لبنان حالياً سيكون باهظاً على إسرائيل ولبنان، وإنْ بصورة غير متساوية
وفي الأشهر الماضية، شهدت الحدود اللبنانية الجنوبية محاولتين انتقاميتين، بحسب الإسرائيليين، لم تنجحا: إطلاق قناصة حزب الله النار على أهداف إسرائيلية؛ ومحاولة مجموعة من مقاتلي الحزب التسلل عبر منطقة مزارع شبعا. وفي المرّتين، رد الجيش بعنف كبير، في رسالة واضحة إلى الحزب أن توسيع معادلة توازن الرعب إلى سورية أمر غير ممكن، وثمنه سيكون باهظا. بالطبع، وصلت الرسالة جيداً إلى أسماع مسؤولي الحزب الذي ظل، كلاميا على الأقل، متمسكاً برغبته في الانتقام. لكن الواضح أن كلا الطرفين، الإسرائيلي وحزب الله، كل منهما لحساباته الداخلية والخارجية، غير راغبٍ فعلاً بمواجهة عسكرية، لا أحد يعرف كيف يمكن أن تتطوّر.
يقود هذا إلى الاستنتاج أن ثمن أي عملية أمنية إسرائيلية ضد حزب الله في لبنان حالياً سيكون باهظاً على إسرائيل ولبنان، وإنْ بصورة غير متساوية. وهي ستؤدّي، لا محالة، إلى رد الحزب من خلال إطلاق مئات أو ربما آلاف الصواريخ على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، بينها صواريخ دقيقة ومتطوّرة جديدة، لم يستخدمها الحزب سابقاً. وعلى الأرجح، لن يقتصر رد إسرائيل على هجمات جوية، وستضطر، من أجل إسكات مصادر إطلاق الصواريخ، إلى شن عملية عسكرية برّية واسعة النطاق، يتدرب عليها الجيش الإسرائيلي منذ سنوات. ومع ذلك، تفيد كل التقديرات الإسرائيلية بأن عمليةً كهذه ستكون معقدة وصعبة، لأنها ستدور في مناطق مأهولة، وليس مضموناً أنها ستؤدّي إلى الحسم العسكري الذي يتطلع إليه الجيش الإسرائيلي.
المواجهة المزدوجة التي تخوضها إسرائيل ضد المشروع النووي الإيراني، وضد الترسانة الصاورخية لحزب الله في لبنان، تجري وفق خطةٍ باتت واضحة المعالم، وتدور على محورين: عمليات إسرائيلية سرية تجري في الداخل الإيراني، مثل تدمير منشأة أجهزة طرد مركزي متطوّر في نطنز، وهجوم سيبراني على مرفأ بندر عباس، وأخيراً عملية الاغتيال للعالم فخري زادة وغيرها. والمحور الثاني ما يسميها الإسرائيليون "المعركة بين الحروب" التي نفذ سلاح الجو الإسرائيلي، في إطارها، مئات الهجمات في سورية، لمنع ما يسميه الإسرائيليون التمركز العسكري الإيراني في سورية، وإقامة بنية تحتية عسكرية في هضبة الجولان ضد إسرائيل، ومنع انتقال السلاح المتطوّر من إيران إلى حزب الله. وفي هذه المواجهة، حظيت إسرائيل، في السنوات الأربع الماضية، بدعم هائل من إدارة الرئيس الأميركي، ترامب، سواء عبر تدخل عسكري مباشر، مثل اغتيال قائد فيلق القدس، الجنرال قاسم سليماني، مطلع العام في بغداد، أو بتشديد العقوبات الاقتصادية الأميركية على إيران وسورية ولبنان. وفي الآونة الأخيرة، بلغت التهديدات الأميركية للمسؤولين اللبنانيين ذروتها. والسفيرة الأميركية في لبنان تهدّد المسؤولين صراحة بأن عليهم إما التخلي عن حزب الله أو الانهيار الشامل.
يمكن الاستنتاج من كل ما تقدّم أن احتمال إقدام إسرائيل حالياً على عملٍ أمني كبير في لبنان ضئيل، فإذا كان هدفها المركزي إضعاف حزب الله داخلياً، وتضييق الخناق عليه، وعزله، فإن هذا كله يتحقق من دون أن تطلق رصاصة واحدة، ومن دون أن تعرّض أمن سكانها لخطر الصواريخ. ولكن هذا لا يعني استبعاد أي احتمال لحدوث تطور أمني غير متوقع، يمكن أن يجرّ المنطقة إلى حرب واسعة النطاق.