لبنان في فصل جديد من حرب الإبادة

23 سبتمبر 2024

(حسين ماضي)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

مع اقتراب حرب الإبادة التي يشنّها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني في غزّة من إتمام عام، باتت أهدافها أكثرَ وضوحاً، واختلفت عن تلك التي أُعلنت في بدايتها. كما اتّسعت آفاقها، وتعدّدت جبهاتها، وطال مداها، واشتدّت قسوتها وضراوتها، وانعدمت فيها المعايير الإنسانية والأخلاقية، واخترقت ما كانت توصف بـ"الخطوط الحمراء"، وبات من المُتعذّر توقّع حدود زمنية لنهايتها، أو شروط واضحة لوقفها، وسط صمت دولي، وعجز رسمي عربي، ومشاركة أميركية كاملة في أدقّ تفاصيلها.
ثمّة سمات باتت واضحةً للمرحلة الجديدة، فهي مرحلةٌ أخطر وأقسى، وستستغرق وقتاً أطول ممّا سبق، وتعكس تغيّراً جذرياً في أهداف الحرب، التي أعلنتها مختلف الأطراف في بدايتها، إذ اختفت الأهداف القديمة، وحلّ محلّها ما كان مُضمَراً. أعلن العدوّ أهدافه المُحدَّدة بالقضاء على حركة حماس، وبنزْعِ سلاحها، وباستعادة الأسرى، ولكنّه لم يُحقّق نجاحاً كاملاً في أيّ منها، فما عادت مسألة أسراه أولويةً له، وأدرك أنّ نزْعَ سلاح المقاومة، وتدمير بنيتها التحتية، يحتاجان إلى سنوات سيتعرّض خلالها لحرب استنزاف طويلة في غزّة، وهو ما يُخطّط له ببقائه فيها، وتهجير سكّان شمال القطاع وإعادة استيطانه، وتحويل غزّةَ مكاناً غير قابل للحياة البشرية، ولعلّه الأمر الوحيد الذي نجح في تحقيقه.

تتحوّل جبهة غزّة تدريجياً ثانويةً ليبقى الجيش الإسرائيلي في نقاط ارتكاز يحتفظ فيها بعدد أقلّ من قواته

على المستوى العسكري، وبعد قتال عنيف دام قرابة العام، سجّلت المقاومة صموداً أسطورياً، ومآثرَ تُسجَّل في تاريخ الحروب، على الرغم من المعاناة الإنسانية التي لا توصف، وفاق أداؤها القتالي التوقّعات كلّها، إلّا أنّ جبهة غزّة تتحوّل تدريجياً إلى ثانوية، يبقى فيها الجيش الإسرائيلي في نقاط الارتكاز التي أسّسها على طول الحزام الحدودي، وفي محورَي نتساريم وصلاح الدين، ويحتفظ فيها بعدد أقلّ من قواته (فرقة عسكرية واحدة بدلاً من عشر فِرَق)، مُعزَّزةً بسلاح الجوّ وبالمُسيَّرات، ليشنّ منهما غاراته على السكّان، والمقاومة، التي ستستمرّ أيضاً في استنزاف الجيش الإسرائيلي دفاعاً أو هجوماً، كلّما لاحت لها الفرصة، وبوتيرة متفاوتة. وسيواصل العدو تنفيذ خطط التهجير والحصار والتجويع، وإعاقة أيّ جهود لإعادة الإعمار أو الإغاثة. كانت أهداف المقاومة المُعلَنة تبييض السجون الصهيونية، عبر عملية تبادل واسعة للأسرى، ووقف حرب الإبادة الجماعية، وتحقيق وقف شامل لإطلاق النار يُؤدّي إلى انسحاب كامل للجيش الإسرائيلي من غزّة، تمهيداً لإعادة إعمارها. ويُلاحَظ هنا أنّ ثمّة مرونة واضحة طرأت في موقف المقاومة من مسألة إدارة غزّة، استجابة لمعاناة أهلها في حال تحقّق الانسحاب الإسرائيلي، لكنّ هذا الموقف ما زال يصطدم بالموقفَين، الإسرائيلي والأميركي، وبالموقف العربي الرسمي، وبموقف السلطة الفلسطينية المُتردّد والمائع والمنتظر للإملاءات الخارجية. بإيجاز، يمكن القول إنّ حسم هذه المعركة، وتحقيق هذه الأهداف، بات مرهوناً باستمرار المقاومة، وصمود غزّة، ونتائج الحرب على الجبهات الأخرى.

لا يمكن أن تكون قواعد الاشتباك فاعلةً إذا التزم بها طرف واحد فهي تحتاج إلى اتّفاق ضمني بين جميع الأطراف

ثمّة جبهة أخرى مشتعلة هي جبهة الضفّة الغربية، بما فيها مدينة القدس، تبذل فيها المقاومة جهداً كبيراً، وأهم ما يميّزها صمود الشعب الفلسطيني فيها، وتمسّكه بأرضه، وهو العامل الحاسم في التصدّي لمخطّط العدو في الاستيلاء عليها وضمّها، وهذا مخطّط بلغ مراحلَ متقدّمةً برفض الاحتلال الاعتراف بدولة فلسطينية بين النهر والبحر، وتعزيز الاستيطان، وتسليح المستوطنين، ودعم هجماتهم اليومية على المدن والقرى. ومن البديهي القول إنّ الحرب الكُبرى هي تلك التي تُشنّ على الضفّة الغربية والقدس، والتي تمثّل طليعةَ الأهداف الصهيونية المُضمَرة لحرب الإبادة الجماعية.
منذ اليوم الثاني لـ"طوفان الأقصى"، تشكّلت جبهات عُرِفت باسم جبهات الإسناد للمقاومة في غزّة، أبرزها جبهة اليمن، التي أغلقت البحر الأحمر في وجه السفن المتّجهة إلى إسرائيل، ونجحت، أحياناً، في ضرب مركز الكيان بصواريخ باليستية ومُسيَّرات، وجبهة لبنان، التي حاول فيها حزب الله وضع قواعدَ للاشتباك تجنّبه الدخول في حرب شاملة، لكنّه يرهق فيها العدو بقصف مواقعه العسكرية القريبة من الحدود، مسبّباً تهجير سكّان مستوطنات الشمال، ومتحمّلاً، في المقابل، كلفةَ الردِّ الصهيوني على القرى اللبنانية الحدودية، وهي قواعد كان يتجاوزها الطرفان أحياناً تجاوزاً محدوداً، ثمّ لا يلبثان أن يعودا إليها سريعاً. الأمر الذي أتاح لحزب الله أن يكون شريكاً في الحرب التي يخوضها الشعب الفلسطيني، وأن يربط وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية بوقف إطلاق النار في غزّة، وهو موقف يُحسب له.
مارست الولايات المتحدة، خلال العام الماضي، ضغطاً على الجيش الإسرائيلي، لمنعه من خوض حرب شاملة في الجبهة اللبنانية، وكان ثمّة مصلحة إسرائيلية في ذلك للتفرّغ لجبهة القتال المشتعلة في غزّة والضفّة الغربية، وضمان استمرار تدفّق السلاح واستمرار الدعم الأميركيَّين، اللذين شكّلا وقود الحرب، على الرغم من رغبة قيادة الجيش الإسرائيلي منذ الأيّام الأولى في توجيه ضربات كبيرة إلى قدرات الحزب، وصولاً إلى خوض حرب شاملة ضدّه، انطلاقاً من رغبتهم في حسم هذه المسألة في وقتٍ يتّحد فيه المجتمع الإسرائيلي حول الحرب ويُبدي استعداداً لها.
لا يمكن أن تكون قواعد الاشتباك فاعلةً إذا التزم بها طرف واحد، فهي تحتاج إلى اتّفاق ضمني بين جميع الأطراف، وعلى الرغم من استمرار الحزب إعلانه الالتزام بقواعد الاشتباك السابقة، التي تتيح له ردّاً محدوداً على أيّ تجاوز إسرائيلي، من دون الانزلاق إلى مواجهة أوسع، وأكّد ذلك حسن نصر الله في خطبته التي ألقاها عقب تفجيرات أجهزة الاتصال، وهو موقف يرتبط بدور الإسناد الذي رسمه الحزب لنفسه في الحرب، والمرتبط بتقديراته أنّ قوّة الردع التي راكمها عبر الأعوام الماضية ستحول دون إقدام العدوّ على توسيع المواجهات، كما أنّ ثمّة مُحدّدات تحول دون قرار الحزب تجاوز قواعد الاشتباك الحالية من جهته، مرتبطة بامتداداته الخارجية وحسابات الداخل اللبناني.
تأخّر حزب الله في إدراك ملامح المرحلة الجديدة، وفي تلمّس السياسة الصهيونية فيها، والمرتكزة على الدعم الأميركي غير المحدود، إذ ثمّة توافق بين القيادتَين السياسية والعسكرية على توجيه ضربة إلى قدرات الحزب، ثمّة اتّفاق بين القيادة السياسية والعسكرية على ضرب قدرات حزب الله، وما يُقال حول خلاف بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت لا علاقة له من قريب أو من بعيد بالحرب على لبنان، إنّما هو مرتبط بقضية تجنيد اليهود المتديّنين، وثمّة ضغط على الحكومة الإسرائيلية لإعادة مُهجَّري الشمال، بعد إعادة جزء كبير من مهجّري الجنوب في المستوطنات القريبة من غزّة، كما أنّ نتنياهو يعمل على إدامة الحرب وفق رؤية مختلفة عن الأهداف التي أعلنها في بدايتها، تتلخّص في رغبته في تغيير ملامح الشرق الأوسط، والبقاء في غزّة، وضمّ الضفّة الغربية، وإرغام النظام العربي على التطبيع والدخول في محور في مواجهة إيران بقيادة إسرائيلية. يتمثّل المجال المفتوح له في توسيع جبهات الضفّة الغربية ولبنان، بعد استكمال جزء كبير من مهمّات الجيش الإسرائيلي في غزّة.
ما زالت الإدارة الأميركية تضغط على الحكومة الإسرائيلية لعدم خوض حرب شاملة، خوفاً من تأثير الحرب على نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية. لذا يمكن القول إنّ الخطط العملياتية للجيش الإسرائيلي ستتمثّل في إنهاء قواعد الاشتباك السابقة، والضغط على حزب الله عبر اغتيال قياداته، وضرب مواقعه، بما فيها التي في بيروت والبقاع، بغرض إرغامه على إنهاء جبهة الإسناد، وفك ارتباط الجبهة اللبنانية مع غزة، والقبول بشروطه التي عرضها المبعوث الأميركي، عاموس هوكشتاين، والقاضية بانسحابه إلى ما وراء الليطاني. لذا، من المتوقّع أن تتزايد الضربات العسكرية الإسرائيلية بما يشبه الحرب الشاملة، لتدمير البنية التحتية للحزب، وضرب قدراته مستخدماً سلاح الجوّ استخداماً رئيساً.

على حزب الله تجاوز قواعد الاشتباك الحالية، ورسم قواعد تبرز قدرته على الردع

تطوّر الحرب في جبهة لبنان يتوقّف على ردّة فعل حزب الله، الذي يحتاج إلى مقاربة جديدة لقواعد الاشتباك التي يتبنّاها، إذ إنّ فاعلية قوّة الردع التي يمتلكها تجاه المواقع العسكرية الإسرائيلية المُحصَّنة والمحمية محدودة نسبياً، وكما أشار أمين عام الحزب، حسن نصر الله، يبحث مقاتلوه بالسراج والفتيلة عن هدف يضربونه، في حين أنّ قوّة الردع الرئيسة لديه تتمثّل في قدرته على ضرب البنى التحتية الإسرائيلية والمدن والمستوطنات الكبرى في العمق الإسرائيلي. على حزب الله أن يتجاوز قواعد الاشتباك الحالية، وأن يرسم قواعد أخرى تبرز قدرته الحقيقية على الردع، وهو ما قد يُؤدّي إلى وقف الحرب أو يُحوّلها إلى مواجهة شاملة وحرب طويلة وضارية، لكنّه إن لم يتّجه نحوها اليوم باختياره فستُفرض عليه لاحقاً، بعد أن يُستنزَف عبر ضربات متلاحقة، يُخشى من الردّ عليها بمثلها خوفاً من تورّط حليفه الرئيس في حرب إقليمية، أو تحسّباً من تراجع مشروعه على المستوى المحلّي، نتيجة تأثّر المعادلة السياسية الداخلية بموازين قوى مُستجِدَّة، نتيجةً لهذه الحرب، إذ إنّ ضرب قدرات حزب الله، وتغيير المعادلة السياسية في لبنان، خيار لا بديل عنه في الاستراتيجية الصهيونية، وإدراك حتمية المواجهة معها سيكون بداية التغيير المأمول واستخدام صحيح لقدرة الردع المتوفّرة. مرّة أخرى نقول إنّ ما يُخطِّط له العدو ليس قدراً، ويمكن مواجهته وهزيمته، إذا أدركنا (كما يدرك هو) أنّ هذه المعركة تتجاوز حدود معارك الإسناد، إذ هي معركة وجود لأمّتنا كلّها.

34BA9C91-C50D-4ACE-9519-38F0E79A3443
معين الطاهر

كاتب وباحث فلسطيني، عضو سابق في المجلس الثوري لحركة فتح والمجلس العسكري الأعلى للثورة الفلسطينية، ساهم في تأسيس الكتيبة الطلابية منتصف السبعينات، قائد للقوات اللبنانية الفلسطينية المشتركة في حرب 1978 منطقة بنت جبيل مارون الراس، وفي النبطية الشقيف 1982.