لبنان ليس بخير
خلال الحرب العالمية الثانية، وفي عزّ المعارك التي كانت بريطانيا تخوضها، قال أحدهم لرئيس وزرائها، ونستون تشرشل: "الخراب عمّ البلاد، والاقتصاد تراجع، والرشوة تطاول الجميع". فردّ الأخير سائلًا: "هل قضاؤنا بخير"؟ جاءه الجواب: "نعم"، فأردف حينها: "إذن بريطانيا بخير".
بريطانيا كانت في الحرب تجابه عدوًا خارجيًا، فيما ظهر التضامن الداخلي في أبهى تجلياته. لذا شعر الجسم القضائي في بريطانيا بمسؤولية وطنية. أمّا في لبنان، فكيف تريدون من القضاء أن يكون بخيرٍ طالما لبنان يجابه خارجيًا أعداء يحاولون تركيعه لأخذه في محورهم، فضلًا عن داخل متآمر ومنقسم على ذاته، ويعيش تناقضات دخلت حتى في الجسم القضائي نفسه؟
بعد ثمانين عامًا من إجابة تشرشل، نسأل السؤال نفسه في لبنان، ليأتينا الجواب: "لبنان ليس بخيرٍ، لأنّ قضاءه ليس بخيرٍ، ولن يكون"، طالما تخنقه السلطة السياسية بوصايتها وتهيمن عليه، وطالما ارتضى هو نفسه الخضوع رافضًا الانتفاض والتحرر.
كاد مشهد صراع الصلاحيات بين مدّعي عام التمييز ومدّعي عام جبل لبنان أن يكون أشبه برسمٍ سوريالي في ذهن اللبناني الذي لم يعتد أن يرى تمرّدًا وتخبطًا وضياعًا وصراعًا داخل الجسم القضائي. مع أنّ اللبناني يدرك تمامًا أنّ مؤسسة القضاء، كغيرها من المؤسسات، دخلت فيها المحاصصات والمحسوبيات والوساطات، إلّا أنّ ثقته في هذه المؤسسة لا يريدها أن تتزعزع، كي لا ينهار ما تبقى من وطن.
حرب الصلاحيات برزت للعلن، بعدما داهمت القاضية غادة عون شركة لتحويل الأموال بالكسر والخلع، بعد رفض الأخيرة تسليم داتا المعلومات لها، متذرّعة بأن لا صلاحية لدى القاضية، بعدما كُفّت يدها بقرار يمنعها من النظر في الجرائم المالية وجرائم الاتجار بالبشر والمخدّرات وجرائم القتل.
علاقة لبنان مع إخوانه العرب في أسوأ حالاتها، وها هي السعودية ودول الخليج طبقون العقوبات على لبنان، حرمان مزارعيه من تصدير مزروعاتهم إلى أسواقها
يبدو أن الكباش السياسي في لبنان تحول إلى كباش قضائي، فمن يراقب الساحة اللبنانية يدرك أنّ الأيام التي استنفرت فيها وسائل الإعلام لنقل ما يحدث في تلك الشركة كانت شبه خالية من خروق سياسية، ولا سيما في موضوع تشكيل الحكومة. هذا ما يعطي انطباعًا بأنّ تصفية الحساب بين السياسيين أخذت وجهةً مختلفةً هذه المرة، من باب القضاء. فبينما كان الصراع بين التيار الأزرق (المستقبل)، برئاسة سعد الحريري، والأورانجي (الوطني الحر)، المتمثل برئيس الجمهورية ميشال عون، وخلفه الوزير باسيل، بشأن صلاحيات تشكيل الحكومة، وتفسيرهما المواد الدستورية كلّ بما ينسجم مع مصالحه، انسحب هذا الصراع إلى الجسم القضائي، حيث ناصر فريق التيار الوطني القاضية غادة عون في موضوع شركة تحويل الأموال، في حين نزل تيار المستقبل لدعم قرار النائب العام التمييزي، القاضي غسان عويدات، المطالِب بسحب الملف من يد القاضية، وتسليمه إلى قاض آخر.
لذا، ظنّ بعضهم أنّ في إحالة القاضية إلى هيئة التفتيش القضائي ودعوة مجلس القضاء الأعلى للاستماع إليها تعطيلا لعملها، لكنّ العكس قد حصل، فقد أصرّت القاضية على سحب الملف، والتحقيق فيه. كيف لا، وتحرّكها مرحّب به من دوائر القرار في القصر الجمهوري، إذ لن يتنازل الرئيس ميشال عون عن موضوع التدقيق الجنائي الذي يعتبره الإنجاز الأخير الذي سيقدّمه للبنانيين عند نهاية ولايته. من هنا، لا تشكل مداهمة الشركة المعنية بتحويل الأموال إلى الخارج ملفًا عاديًا تبتّ فيه قاضية بالنسبة للتيار الأورانجي، بل يعني المواجهة الكبرى مع السلطة العميقة. تلك السلطة التي تتضمن رجال سياسة ودين وأمن وقضاء ورجال مال وأعمال وأصحاب مصارف، شكّلوا معًا ما عرفت "بالسياسة الحريرية" التي استحكمت بمفاصل الحياة السياسية في البلاد بعد اتفاق الطائف 1991.
كيف يمكن أن يكون لبنان بخيرٍ وهو يرزح تحت أزمتين مالية واقتصادية هما الأخطر في تاريخه
لذا، بات القضاء جزءًا من الصراع الداخلي القائم في لبنان، لا بل رأس حربته، حيث تأخذ المشهدية الحالية امتدادًا للانقسام العمودي بين الأفرقاء في الداخل، وربطها بمحاور الخارج. فصمت حزب الله وغيابه عما يحدث تردّهما مصادر مطّلعة إلى ارتياحه لإضعاف الساحة اللبنانية، كي يتمكّن من أخذ لبنان المترهل إلى محوره الرئيسي ومركزيته طهران. بينما يعتبر بعضهم أنّ ضرب هيبة القضاء سيقضي على آمال الرئيس عون بالتدقيق الجنائي، ولن يبقى هناك من يحاسب، في حين يأمل فريق العهد في لعبة القضاء بجرّ خصومه إلى تسوياتٍ داخليةٍ تأتي بتحقيق إنجازات، بدءًا من تشكيل الحكومة وصولًا إلى تمهيد الطريق وتعبيدها لمرحلة ما بعد انتهاء ولاية الرئيس عون.
أخيرًا، ليس الجسم القضائي مريضًا، بل لبنان بكيانه ليس بخير. كيف تريدونه أن يكون بخيرٍ وهو يرزح تحت أزمتين مالية واقتصادية هما الأخطر في تاريخه. وهو اليوم أسير لعبة المحاور، ومصادرة قراره، حيث يقحمه بعضهم في أن يكون خط الدفاع الأول في معارك دول أخرى. كيف سيكون بخير، وعلاقاته مع إخوانه العرب في أسوأ حالاتها، وها هي السعودية ومجلس التعاون الخليجي يطبقون العقوبات على لبنان، من خلال حرمان مزارعيه من تصدير مزروعاتهم إلى أسواق دول الخليج، بسبب ضبط شحنات كبتاغون كانت مهرّبة إلى المملكة.