لبنان .. ما قبل الانهيار
تدلّ المؤشّرات المتوفرة حالياً على قرب انهيار الدولة اللبنانية في ظل الانسداد السياسي والأزمة الاقتصادية غير المسبوقة، وتعنّت المسؤولين، ورفضهم العمل وفق الحلول المطروحة، خصوصاً أن علائم تحوُّل لبنان إلى دولة فاشلة لم تعد في حاجة إلى برهان، مع عجز جميع حكوماته المتعاقبة عن الوفاء بأيٍّ من التزاماتها التي وضعتها أمامها ووعدت الشعب بتنفيذها. ومع انتشار مشاهد الفقر في البلاد، جاء تهديد رئيس الحكومة المستقيل، حسّان دياب، بالاعتكاف من أجل "التشجيع على تشكيل حكومة جديدة"، كما أفاد، ليكون تحذيراً من أنه قد يؤدّي إلى إحداث فراغٍ يعطّل الدولة، ويعمِّق الكوارث الواقعة على رؤوس أبنائها.
ولا يتوقَّف تصنيف الدولة اللبنانية دولةً فاشلةً على سبب كونها أصبحت مرتهنةً إلى قوى خارجية ومصارف دولية أفقدتها قرارها، وباتت تضع لها توجهاتها السياسية، وتحدِّد لها شكل اقتصادها وإدارته، فحسب، بل لكونها أيضاً أصبحت مرتهنةً إلى قوى داخلية ذات ارتباطات خارجية تتنازع السيادة على قرارها، وتصبغ مستقبلها بالصبغة التي تحدّدها تلك القوى. وتأكدَ اللبنانيون من غياب الدولة واستقالتها من مهامها من خلال ما رافق انتفاضة 17 تشرين الأول (2019) من عنفٍ طاول محتجين ومتظاهرين، لم تنفِّذه أجهزة الدولة الأمنية، بل قوى خارجة عن سيطرتها وتابعة للمليشيات العاملة على أراضيها، ارتكبت جرائمها ونفذت خطط القمع الخاصة بها تحت أعين رجال الأمن العام والجيش اللبناني.
لا تدير هذه الطبقة الدولة ومؤسساتها، بل تدير تفليس الدولة وتشرف عليه
ولكن، مع تعاقب الحوادث، والانهيار المصرفي والسطو على ودائع اللبنانيين عشية الانتفاضة، وبعدها مع انتشار فيروس كورونا الذي أثَّر على اقتصاد البلاد، تثبَّت للبنانيين أن تلك الطبقة التي يطالبونها بالإصلاح ما هي إلا طبقة أوليغارشية تكرَّست بتحوّل زعماء الطوائف الذين يكوِّنون الطبقة السياسية الحاكمة إلى أقطاب الاحتكارات البنكية والأعمال. ولا تدير هذه الطبقة الدولة ومؤسساتها، بل تدير تفليس الدولة وتشرف عليه، عبر تحويل أموالها إلى الخارج، والسطو على أموال المودعين الصغار، بعد منعهم من سحب ودائعهم، حتى لو كان الهدف من السحب تسديد فاتورة عملٍ جراحي.
لم يكن أحد يتوقع أن يتردَّى الوضع الاقتصادي في لبنان، ويزداد تأثيره السلبي ضرراً على معيشة المواطنين، إلى درجة بيع مقتنياتهم وسياراتهم، وأحياناً منازلهم لتأمين لقمة عيشهم. كما لم يكن أحد يتوقع أن يتردّى هذا الوضع إلى درجة تهافت المواطنين على سلعةٍ واقتناصها من أيادي بعضهم بعضاً، كما ظهر في فيديو مصوّر في أحد المتاجر اللبنانية أخيراً. ويزيد من هذا الأمر الانهيار السياسي الذي يظهر عبر الفشل في تشكيل الحكومة، أسوةً بتأخر تشكيل ما سبقها من حكومات، التي عادة ما تعجز عن تقديم أي شيء، إلى درجة أن غياب حكومة أو وجودها هو سواء؛ إذ لا يلاحَظ له أثرٌ على حياة اللبنانيين. والآن، ومع الانسداد السياسي الذي يكرّسه التجاذب والتصارع على الحقائب، والذي لا يستطيع التدخل الخارجي، الفرنسي أو القطري، أو أياً كان، أن يحل عقده، يبدو أن مسار الانهيار يتسارع، مع تعنّت كل فريق من فرقاء السلطة بموقفه الذي يريد به المحافظة على امتيازاته، حتى لو كانت النتيجة انفجاراً مماثلاً لانفجار مرفأ بيروت، في 4 أغسطس/ آب الماضي، والذي دمَّر نصف المدينة.
ليس غياب القدرة على كبح الانهيار ما يجعل الانهيار مستمرّاً في التقدّم المضطرد، بل غياب الإرادة لدى مؤسسات الحكم برئاساته الثلاث
ويبقى السؤال ماثلاً: ما الذي أوصل لبنان إلى حافّة الانهيار التي يقف عليها الآن، والتي، بين لحظة وأخرى، قد تأتيه دفعة خفيفة من الوراء وتلقيه في قعرها؟ في أواسط سنة 2019، جرى الكلام بأن لبنان سيعاني، أو ربما بات يعاني فعلاً، من انهيارٍ مصرفي، مع وصول السيولة من العملات الأجنبية في مصرفه المركزي، وبقية المصارف، إلى أقل من 10%. وهو ما أدّى إلى أزمة مالية واقتصادية بدأت تظهر عبر الكساد وقلة فرص العمل وعدم القدرة على تمويل الاستيراد، خصوصاً من القمح و"الفيول" المخصص لتوليد الكهرباء، وغيرها من المظاهر. يومها حذَّر رئيس الحكومة اللبنانية آنذاك، سعد الحريري، من انهيار البلاد اقتصادياً، وتحدَّث أنه سيجرى إعلان حالة طوارئ اقتصادية، لخفض العجز في بعض القطاعات، وإجراء إصلاح ضريبي يطاول كبار المودعين والطبقة الأكثر ثراء، وبيع بعض مؤسسات القطاع العام وشركاته، لكن ذلك كله لم يحدث. مع العلم أن الاقتراض الذي كان يسعى الحريري إليه لم يكن له سوى فائدة واحدة، هي خدمة الديْن السابق الذي تراكم بفعل القروض المتتالية التي كانت الدولة تستجرّها، من دون أن تكون لها قدرة على إيفاء أقساطها.
ويومها، أيضاً، حذّر الحريري من انفجار، ربما كانت انتفاضة 17 تشرين، التي كادت أن تطيح الطبقة السياسية الحاكمة، أول أشكاله. وكان الحريري حينها مدفوعاً من البنوك الدولية، وليس بسبب الوضع الاقتصادي والمعيشي الضاغط. وقد اشترطت تلك البنوك، من أجل إقراض لبنان مجدّداً، ضرورة إجراء تغييرات جذرية في بنية النظام اللبناني، وإصلاح نظامه الإداري والمالي، وتغيير القوانين التي تحدّ من الهدر، ومحاربة الفساد، وهو الفساد الناتج، بالدرجة الأولى، عن تغوُّل رجال السياسة في الاقتصاد والمصارف واحتكارهم التلزيمات وعقود التجارة والأعمال.
يعرف اللبنانيون أنه لا يعوَّل على الطبقة السياسية التي تحكمهم بأن تتنطع لحلٍّ هي فاقدته بحكم مصلحتها
قد لا يلاحظ كثيرون أنه ليس غياب القدرة على كبح الانهيار ما يجعل هذا الانهيار مستمرّاً في التقدّم المضطرد، بل غياب الإرادة لدى مؤسسات الحكم برئاساته الثلاث، مع من تمثله من بقية أقطاب الطبقة الأوليغارشية الحاكمة. كما أن الانهيار المالي سببه الهندسات المالية التي اتّبعها مصرف لبنان المركزي، بعد زيادة نسبة الفوائد على الإيداع بالعملة الصعبة إلى أكثر من 7%، هذه الهندسات المتهمة دائماً بإفقاد الليرة قيمتها، ووصول سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية إلى عشرة آلاف ليرة، بعد أن كان 1500 ليرة. كما يعود السبب أيضاً إلى انعدام السيولة المالية من العملة الصعبة، بعد أن حوَّلَ السياسيون أموالهم إلى الخارج، وازدادت نسبة ذلك التحويل عشية انتفاضة 17 تشرين الأول (2019)، خوفاً منهم من أن تنجح هذه الانتفاضة في تحقيق أهدافها في خلعهم عن سدّة الحكم.
ستكون هنالك تداعيات كثيرة على المنطقة إذا انهارت الدولة، ليست أولها تأثُّر سورية بالشلل الاقتصادي في لبنان وبأزمته المالية والمصرفية. وحذّر رئيس الحكومة المستقيلة، حسّان دياب، نفسه من أن البلد وصل إلى "حافة الانفجار بعد الانهيار، ويكمن الخوف في عدم إمكانية حمايته من الأخطار"، وطبعاً في عدم حماية الدول المحيطة من تلك الأخطار، مع وجود أطرافٍ لديها فائض قوة وزّعته على الدول العربية التي تشهد حروباً وقلاقل.
ومع العودة إلى التحذير من الفوضى، يعرف اللبنانيون أنه لا يعوَّل على الطبقة السياسية التي تحكمهم بأن تتنطع لحلٍّ هي فاقدته بحكم مصلحتها في استمرار هذا الانهيار. انهيارٌ تعتقد أن شظاياه لن تصيبها، بعد أن تلطَّت خلف سواتر من مؤيدين ومدافعين، ثبت لها أنهم مستعدون لتقديم أرواحهم فداء لـ "صرماية" زعيم طائفتهم مقابل فتاتٍ يرتضون به.