لبنان وإعطاء الحلول لمن لا يريدون الحلّ
تُترجم كل محاولات الاهتمام بلبنان بالكم الهائل من محاولات التفكير في كيفية إخراج اللبنانيين من المآزق. إلا أنه، وبمعزل عن النيّة والهدف والمصلحة من خلف هذا الاهتمام، بات من الملحّ التأكيد على أن الاهتمامين الدولي والإقليمي في وضع الحلول لمشكلات لبنان هو العقبة الأساسية القاضية بعدم وجود أي حل. هنا لا نسائل الغاية من خلف التفكير الإيجابي القاضي بإنتاج الحلول، ولا نسائل إمكانية توظيف هذا التفكير في صالح الدول والمنظمات الدولية قبل أن تكون في صالح لبنان، لأن كل الدول تسعى بشكل من الأشكال إلى تحقيق نوع من المصالح، وهذا حقّها. ولا نقول إن في الأمر الكثير من التنصّل من المسؤوليات السياسية، تجاه لبنان أو تجاه وضع الدول المأزومة التي ينفتح الوضع اللبناني على وضعها. بل هناك إشكالات رئيسية توصل المتابع إلى أن كل محاولة اهتمام، بأيٍّ من أشكاله، وعلى أيٍّ من مستويات إيجاد الحلول، هو تأجيل حقيقي لأي حلٍّ طويل الأمد ويؤدّي إلى الخروج الفعلي من شروط إعادة إنتاج العبث اللبناني، لأن كل الحلول تعطي نفسًا جديدًا للنظام ولقواه التي هي السبب الفعلي في إبقاء واقع الحال على ما هو عليه.
حاولَت دراسات ومقالات ومقابلات كثيرة لفت النظر إلى حقيقة هذه المأساة التي يقبع الوضع اللبناني فيها، إلا أن الحقيقة تقتضي، مرّة واحدة في تاريخ لبنان، نظر الدول إلى أن الأزمة هي فعلًا في وجود هذه الطبقة الحاكمة، وضرورة قطع أجهزة الإنعاش عنها لكي يكون أي حل ممكنًا وفعالًا ومجديًا. بل إن أي نفسٍ جديد، أي تحويل مصرفي لحماية سلك ما، أو مؤسّسة من مؤسّسات الدولة اللبنانية المنهارة، هو إمعان في تقوية هذه الطبقة، وبالتالي في انهيار هذه الدولة وهذا السلك وهذه المؤسّسة.
لقد اعتاشت القوى الحاكمة في لبنان سنوات طويلة على المساعدات وعلى بحث الآخرين عن حلولٍ لما اقترفته هي بأيديها، وعاشت على إنتاج الأزمات التي تستدر من خلالها مساعدات إضافية ومنح جديدة. إذ لا يمكن لدولة صغيرة، بهذا الحجم وعدد السكان، أن تختفي فيها كل الأموال والمنح التي تم تحويلها إليها خلال تلك السنوات، وأن تبقى على حالها من الهريان والعفن والتكسير. لا يمكن، ولا لأيّ عقلٍ سليمٍ ومنطقيٍّ أن يتقبّل حقيقة أن هذه الأموال ذهبت هدرًا من دون أن يظهر أي أثر لها. هذا طبعًا من دون الكلام عن الأموال والمقدّرات المحلية التي تم نهبها بأشكال مختلفة، ليس آخرها ما يجري في المصارف والقضم المستمر لأموال المودعين.
المبادرات الدولية، الفرنسية والخليجية، وغيرها الكثير، لم تولّد أي تغيير في السلوك السياسي، بل زادت من غطرسة القوى الحاكمة وعنادها وشرهها ورعونتها
لا يمكن أن يقبل أي عاقل حقيقة أن الحلول التي لطالما كانت مطروحة وممكنة في السابق، التي كانت تصبّ في إعادة إنتاج النظام وقواه أيضًا، لم تستنفدها القوى المستفيدة منها فعليًا، ولم تأتِ معها بأي نتيجةٍ ولا أي أثر. بل ترى البلاد تدخل من مأزقٍ لتخرج من مأزقٍ أكبر منه وأخطر، وترى أن هذه المبادرات الدولية، الفرنسية والخليجية، وغيرها الكثير، لم تولّد أي تغيير في السلوك السياسي، بل زادت من غطرسة القوى الحاكمة وعنادها وشرهها ورعونتها. علمًا أن هذه المبادرات كانت تنتهي، سواء أدركت الدول التي تعمل عليها أم لم تدرك، بإطالة عمر النظام، أي إطالة عمر الطبقة الحاكمة التي تؤجّل الحلول. وعلى الرغم من ذلك، وعلى الرغم من عدم استفادة اللبنانيين من هذا النوع من الحلول، بل عادةً ما تأتي على حسابهم، فإن الطبقة الحاكمة نفسها لم تأخذها على محمل الجدّ، بل ظلّت تماطل وتعيق إمكاناتها، وإمكانات الحلول التي كانت متاحة يومها، لنصل إلى هذا الظلام الدامس، وإلى نهاية طرق كل الطرقات التي كانت غير نافذة أساسًا.
لعل من الضروري رفع هذا الصوت عاليًا، لكي يسمع الجميع إن الحلول الترقيعية لن تؤدّي إلا إلى مآزق وحلول ترقيعية أكثر منها، اليوم وفي المستقبل. كما جرى في السابق، وكما يستمرّ جريانه، فهذا النوع من إدارة البلاد لم يعد بالإمكان أن يأتي بأي جديد سوى القدرة المستمرّة على التدمير، وعلى المخاطرة بمستقبل الناس في لبنان وفي الخارج، أي في بلاد الاغتراب. إذ لطالما عاش النظام على الأموال المحوّلة من الخارج، بالإضافة إلى المنح والودائع العربية وغيرها، ولطالما تلكأت قواه عن ممارسة أي فعلٍ سياسيٍّ يختلف عن تأبيد واقع الحال، أمام أعين كل من يرى هذه الاستباحة للدولة، ولما تبقّى من مؤسّسات.
تزداد رقعة اللبنانيين الذين يندرجون تحت خط الفقر، على وقع طبقة ازدادت أرباحها وممتلكاتها بشكل هستيري
اليوم، تزداد رقعة اللبنانيين الذين يندرجون تحت خطّ الفقر، على وقع طبقة ازدادت أرباحها وممتلكاتها بشكل هستيري، إذ تقدّر وزارة الخزنة الأميركية الأموال المنهوبة بحوالي 800 مليار دولار نفّذها 90% من الذين حكموا البلاد خلال العقود الماضية، بالإضافة إلى غيرهم من سياسيين وأصحاب مصارف وتجّار. استعادة هذه الأموال، ومعاقبة المسؤولين بالقضاء على مكامن قوّتهم، هو الباب الأساس والممكن لإحداث تغييرٍ حقيقيٍّ في لبنان. تغيير قد يكون بحاجة إلى بعض الوقت، وإلى من يحمل عماده من اللبنانيين، إلا أنه الباب الوحيد في ظلّ كل ما يجري، وإلا فإننا أمام مشهدٍ مستمرٍّ ستكون تداعياته في المستقبل أشدّ كارثيةً وظلامًا. هذه هي الحقيقة التي يجب أن يكفّ اللبنانيون، وغيرُهم من أصحاب المبادرات الخارجية، عن الهرب منها، قبل أن تنجح القوى المحلية بمحاولة تسعير العناوين الطائفية عبر تقاذف المسؤوليات، أو تسعير نيران العنصرية ورمي المسؤولية على اللاجئين وعلى بقية "المؤامرات" الدولية، فتنجح في إدخال البلاد في دوامة عنفٍ لن تفيد إلا من يقبعون في الحكم ولن تعيد إنتاج سوى النظام المأزوم هذا.