لبنان يتأثر على طريقته بالاتفاق السعودي الإيراني
لم يضف الاتفاق السعودي - الإيراني شيئاً جديداً على حلَبة الانهيار اللبناني. كلّ ما فعله أنه مكّنَ وضعية جبهتين مغلقتين، يحصل في داخل كلّ منهما صراع لا يمتّ إلى الآخر إلّا قليلاً. جبهة المافيا الحاكمة، وأطرافها المتصارعة من أجل مزيد من النفوذ لكلّ طرفٍ منها، جميعهم ابتهجوا بالاتفاق، وقالوا فيه شعراً. جميعهم أبلغونا أنّ الاتفاق سوف يعزِّز موقعه وموقفه وخياراته. وبما أنّ المعركة بين هذه الأطراف تدور حول من يكون رئيس جمهورية، فإنّ الأقوى من بينها، أي حزب الله، قائد معركة ترشيح سليمان فرنجية، قدّم نفسه أنه الأكثر استفادة من هذا الاتفاق.
بداية، حاولت "التحليلات" والتسريبات استباق موقف حزب الله: هل يتخلّى الحزب عن سليمان فرنجية مرشّحه الأوحد لرئاسة الجمهورية اللبنانية؟ أم يخرج من الخطة ألف إلى الخطة باء؟ أي أنه يعدّ لمرشح آخر، يلائم الاتفاق السعودي الإيراني؟ والسؤال يفترض البراءة، مجرّد فهم ما سوف يدور في خلد هذا الطرف الأقوى. ولكن حزب الله لم ينتظر المزيد من التساؤلات، وسارع إلى ما يشبه الحملة المنظّمة، والقائلة إن الاتفاق "التاريخي" بين إيران والمملكة السعودية يسجَّل في دفتر "انتصاراته" (آه... من "الانتصارات" التي تحوّلت إلى أشباح ترافق سقوطنا...). فكان حسن نصر الله ونائبه نعيم قاسم ورئيس كتلة نواب حزب الله في البرلمان، محمد رعد، جميعهم ينشدون اللحن نفسه: أنّ هذا الاتفاق هو ضد الصهيونية والإمبريالية، وأنه "لن يكون على حساب شعوب المنطقة"... أي أنه لصالحهم، بصفتهم رأس حربة مواجهة أميركا وإسرائيل. لا بل راح إعلام الحزب بعيداً، ونسبَ هذا الاتفاق إلى قاسم سليماني، جزّار سورية والعراق، قائد الحرس الثوري الإيراني... لماذا؟ لأنه، بطبائعه الجامعة بين "الشدّة والتراحم"، قرأ التاريخ قبل غيره، وفتحَ قنوات التواصل بين الرياض وطهران، أي أنّ الصينيين لم يفعلوا غير المشي على خطى سليماني.
وبعد تسجيل هذا "الانتصار" الإضافي، كانت المهمة الملحّة المطروحة على قادة الحزب الإعداد "لإنجاز الاستحقاق الرئاسي بأسرع وقت ممكن"، فكانت خطوته العاجلة توجّهه نحو فرنسا، لإقناع رئيسها ماكرون بضرورة خرق موقف السعودية الرافض رفع فرنجية إلى رئاسة الجمهورية. تلك هي الجبهة الأولى التي عزّز الاتفاق السعودي الإيراني حصونها. جبهة المافيا الحاكمة حيث تدور "الأكشن" السياسية، حيث الديناميكية، أو الحركة التي تقود مصير البلاد. جبهة مغلقة على نفسها. لا تخترقها إلّا مزايدات الطرف الخصم - الشريك، المائل مع حزب الله أو ضده، بحسب ما يتوفّر من عناصر قوة أو ضغط خارجي. والواضح أن الطرف المعتَمد لدى إيران، أي حزب الله نفسه، المسلّح بصواريخه، هو أكثر تصميماً وتخطيطاً واستماتةً من الأطراف الأخرى المنافسة أو الخصمة. وهذه الجبهة مغلقة بهمومها وحصونها وأولوياتها وامتيازاتها وثراء رجالاتها الفاحش. وهي لم ترَ في الاتفاق السعودي الإيراني غير سباق أعضائها على السطوة والسرقة. سباق محموم، مدعوم من الأطراف الإقليمية المتنافسة، بطلة الاتفاق. والموضوع الوحيد الذي يوحِّد هذه الجبهة هو موضوع اللاجئين السوريين، فكلما فرغت الحجّة من سلة واحدٍ منهم، لجأ إليهم، بعبارات الخبث أو البساطة، فنزل عن مسرحه بالتكلّم عن ضررهم وتكلفتهم وإخلالهم بالموازين الطائفية، وخطرهم على الأمن والنظافة والأناقة اللبنانية...
الصراع لم يعُد بين "تحت" و"فوق"، بين السلطة والشعب
أما "تحت"، تحت هذه الجبهة، فإنّ الاتفاق السعودي الإيراني مرّ مثل نسمة صيف، فهذا "التحت" غارقٌ في تفاصيل سقوطه، كما بتنا نردّد ونضجر. ماء وكهرباء وفلَتان أمني وإفقار حثيث، تجهيل وأمراض، شلل إداري، قطع إنترنت، وأموال مسروقة من المصارف وعلناً، ومجرمون فالتون، وعنف وصراخ وقتل، للنساء خصوصاً.
وجبهة "تحت" هي أيضاً مغلقة: أي أن الصراع لم يعُد بين "تحت" و"فوق"، بين السلطة والشعب. انقطع السبيل بينهما، وبات صراعا بين الذين "فوق" وآخر بين الذين "تحت"، كلّ واحد في فقاعته الخاصة. والحياة في الفقاعة الأخيرة، مع جماعة "تحت"، مثل العيش وسط جبهةٍ مشتعلة. مكسورو القلب، يسرقون بعضهم، يقتلون، يكذبون، يغشّون، يهربون، يرشون، يرتشون... الساحة عندهم "حرّة" ليداعبوا الموت أو يطمئنوا إليه.
سمع بالاتفاق السعودي الإيراني أهل "التحت" وضاقت شاشاتهم بـ"الخبراء"، يثرثرون عنه. ورغم كلّ هذا الكلام الكبير، لم يلمسوا جديداً في جهنمهم، أي في يومياتهم. سمعوا بمواقف الترشيح وتطوراته... أو لم يسمعوا، بقيت "جبهتهم" على ما كانت عليه قبله، في نزولها إلى مزيد من "تحت". ومعه مزيد من صعود الدولار إلى ما لم يتوقّعه إلّا المجاذيب، مائة ألف ليرة لبنانية.
لكن، لا تحزنوا، فقد سطع النور من حيث لا تظنّوا، أيها الكافرون بنعمة المافيا، فوسط الهلع الذي انتاب أبناء الجبهة التحتية من هذا الصعود القياسي للدولار، أتى الفرج من نائبٍ في البرلمان، المليونير ميشال ضاهر. حزِنَ كثيراً النائب "السيادي" على الليرة اللبنانية، فقرّر التراجع عن مقاطعته جلسات البرلمان قبل انتخاب رئيس الجمهورية، عن لعبته البرلمانية، وراحَ يطالب هذا البرلمان بالانعقاد "استثنائياً" من أجل بحث بندَين يعتبرهما "إنقاذيَين": طِباعة أوراق نقدية جديدة من فئة المليون ليرة لبنانية، "توفيراً على الخزينة" تكاليف طبع أوراق أصغر منها، بعد هذا السقوط "التاريخي" الآخر لليرة اللبنانية... أما البند الثاني الذي لا يقلّ إلحاحاً بنظره، فهو التمديد للمجالس البلدية، أيضاً "توفيراً على الخزينة".
سمع بالاتفاق السعودي الإيراني أهل "التحت" وضاقت شاشاتهم بـ"الخبراء" يثرثرون عنه
يعلم النائب الكريم أنّ هذا ليس هو الحلّ لمأساة اللبنانيين، لكنّ النائب قام بواجبه وظهر على الخشبة، ولو برهة. قال كلمته فبقي. لديه الآن دليل على أنه "اشتغل". ومثل غيره، بعدما تجاوز الدولار الربع مليون ليرة، سوف يذكّرنا باقتراحه "الإنقاذي" يربحنا جميلاً به، وبعد ذلك يكرّر مثل غيره "ما خلّونا"...
ليس مهماً أن يكون النائب متهافتاً أو أجوف أو شكلياً أو فارغاً. المهم من ناحيتنا أنّ النائب الكريم، الملتحق بالمافيا منذ "انتخابه"، بعد رشاوى ومحسوبيات وتحريضات طائفية عشوائية، وكلّها لازمة ومطلوبة... هذا النائب الذي يقدّم نفسه "سيادياً" أي على خصومة مع حزب الله... لا يفعل غير التأكيد على الجدار الفاصل بين عالمين مغلقَين، بين فقاعتَين: المافيا الخائضة بصراعاتها الخاصة وحصصها وتحدّياتها والتزاماته الخارجية ومراهناتها على أيّ تعديل للقوة في هذا الخارج من أجل كسب نقاط في الميزان، والتي لا تتناول من يفترض أنّها تحكمهم إلّا بفتات ما تتمخّض عنه عبقريتها... مع ترجيح صريح لكفّة الطرف الأقوى فيها، قيادتها في الحرب والسلم.
وجبهة الأهل أو الشعب أو الناس، من جهة أخرى، إذ تدور معارك البقاء على قيد الحياة، بصغيرها وكبيرها، حيث تشتدّ هذه المعركة كلما أمعن الذين "فوق" بتجاهلهم، والضحك عليهم، وإغراقهم في أولوياتهم وتحشيدهم لإبقاء زعمائهم... "بالروح بالدم نفديكَ يا...".