لبنان ينهار وحزب الله يزداد قوة
مفارقة هائلة يعيشها اللبنانيون منذ فترة، ففي وقتٍ تتسارع فيه وتيرة الانهيارات المتتالية في بلدهم على جميع الأصعدة السياسية والمالية والقضائية والحياتية، يبدو من جهة أخرى أن سلاح حزب الله وترسانته الصاروخية في قمة جهوزيتها وقوتها، بحسب اعتراف الإسرائيليين أنفسهم.
كيف يمكن لبلدٍ يحتضر، بكل معنى الكلمة، منذ انتفاضة 17 تشرين الأول (2019)، سيما بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب، ويصارع فيروس كورونا من دون أن ينجح في احتواء الوباء، ولا يستطيع تأمين لقاحاتٍ لمواطنيه، ويحارب شعبُه من أجل لقمة العيش، توجد على أراضية قوة عسكرية تملك قدراتٍ تهدد أكبر جيش في المنطقة، هو الجيش الإسرائيلي، وتقض مضاجع الدولة العبرية؟ إنه الاجتماع السوريالي بين الضعف والهشاشة السياسية في لبنان، وتعاظم القوة العسكرية لحزب الله. هذه المعادلة هي التي تتحكّم بالحياة السياسية في لبنان وبمصير مواطنيه.
درج الإسرائيليون عموماً على تضخيم خطر حزب الله، ضمن هدف واضح، هو جعل الإسرائيليين يعيشون، على الدوام، في ظل خطر داهم
اللبنانيون اليوم منقسمون إلى فريقين؛ فريق يرى أن الترسانة الصاروخية والصواريخ الدقيقة التي يملكها حزب الله يدفع ثمنها اللبنانيون اليوم حصاراً اقتصادياً وعقوباتٍ فرضها الأميركيون على لبنان تلبية لطلب إسرائيل، وعزلة عربية خانقة بصورة خاصة مع الدول العربية المعتدلة، لأنها تعتبره منحازاً إلى خصمها المعسكر الشيعي الذي تتزعمه إيران. بينما فريق آخر ما يزال يعتبر سلاح حزب الله "درع لبنان"، وهو الذي يحمي لبنان من اعتداءات إسرائيل وعدوانيتها، ويدافع عن السلم الأهلي. وهذه هي الحجّة التي يتذرع بها معسكر الحزب الحاكم، التيار الوطني الحر، في دفاعه عن سلاح حزب الله، وفي تحميله مسؤولية الانهيارات في لبنان للطبقة السياسية التي حكمت لبنان 30 عاماً، على الرغم من أن حزب الله والتيار الوطني الحر يشكلان منذ سنوات جزءاً من هذه الطبقة.
وبغض النظر عن الاستقطابات الداخلية اللبنانية، والخلافات والترّهات التي تحاول من خلالها الطبقة السياسية تضليل اللبنانيين، ما يلفت الانتباه الطريقة التي تتعامل من خلالها المؤسسة الأمنية في إسرائيل مع القوة العسكرية لحزب الله، كأن هذه القوة موجودة في مكان آخر ليس لبنان، ففي مقدمة أولويات الجيش الإسرائيلي هناك بالطبع التصدّي لحصول إيران على سلاح نووي، ثم يحل في المرتبة الثانية، من حيث الأهمية، مشروع الصواريخ الدقيقة لحزب الله وسبل التصدّي له. بالطبع، هناك خطر اندلاع جولة عسكرية جديدة مع حركة حماس في قطاع غزة. وأخيرا، بدأ يعلو خطر الحوثيين في اليمن، بعد هجومٍ تعرّضت له باخرة يملكها إسرائيلي في خليج عُمان.
هذا الإصرارعلى وضع سلاح الحزب فوق أي نقاش حوّله إلى أداة يستقوي بها فريق من اللبنانيين على فريق آخر
درج الإسرائيليون عموماً على تضخيم خطر حزب الله، ضمن هدف واضح، هو جعل الإسرائيليين يعيشون، على الدوام، في ظل خطر داهم. لكن المرعب أنه كلما ضخّم الإسرائيليون من خطورة صواريخ حزب الله على إسرائيل، فاقموا في الخلاف والانقسام بين المجموعة التي تعتبر سلاح الحزب ضمانة لأمن حزب الله، وفريق يعتبره خطراً داهماً على ما تبقى من لبنان في حال اندلاع مواجهة عسكرية محدودة، أو كما يسميها الإسرائيليون "أياماً قتالية" على الجبهة مع لبنان.
في ذروة حرب تموز في 2006، وعلى الرغم من عمليات قتل المدنيين والتدمير الهائل الذي لحق بلبنان جرّاء المواجهة بين حزب الله وإسرائيل، لم يشهد لبنان جدلاً أو نقاشاً داخلياً بشأن سلاح حزب الله. لكن منذ انتهاء هذه الحرب حدثت أمور كثيرة، غيّرت وجه الصراع الدائر بين حزب الله وإسرائيل. وخلال هذه السنوات، طرأت تغيرات كثيرة على دور سلاح حزب الله داخل لبنان وخارجه. ففي لبنان برزت اتهاماتٌ بشأن تورّط عناصره في عمليات اغتيال شخصيات لبنانية، جديدها اغتيال الناشط السياسي، لقمان سليم، وتدخله العسكري في الحرب الأهلية السورية إلى جانب نظام الأسد.
تمسك حزب الله بترسانته، إلى جانب أمور أخرى، من أسباب معاناة لبنان كيانا وشعبا
يبدو أن هذه التغيرات الجذرية في مسار حزب الله، وفي أدائه السياسي الداخلي، والتطورات المأساوية التي يعيشها لبنان، لم تغير شيئاً لا من المقاربة الإسرائيلية التضخيمية لخطر سلاح حزب الله، ولا من معادلة "توازن الرعب" الذي ما يزال أمين عام حزب الله، حسن نصرالله، مصرّاً عليها، بالانتقام على أي عملية تشنها إسرائيل ضد عناصره في سورية، كما عبر عن ذلك في خطاباته التي يوجهها إلى اللبنانيين. كأن الطرفين المتصارعين يديران معركة منفصلة تماماً عن الواقع الإسرائيلي، الغارق في أزماته السياسية الداخلية، والجانب اللبناني الذي يواجه كارثة الانهيار الكامل.
إذا كان تمسّك حزب الله بترسانته الصاروخية هو سبب وجوده "Raison d’etre"، فإنه أصبح، في الفترة الأخيرة، إلى جانب أمور أخرى، من أسباب معاناة لبنان، كيانا وشعبا. رفض أي نقاش داخلي لدور سلاح الحزب الذي تستغله قوى دولية إقليمية لخنق لبنان اقتصادياً، وعزله سياسياً، وتخوين كل صوتٍ يطالب بحوار مفتوح بنّاء لهذا الموضوع، أمرٌ مؤذ في الدرجة الأولى للحزب، بقدر ما هو مؤذ للبنانيين أجمعين. هذا الإصرارعلى وضع سلاح الحزب فوق أي نقاش حوّله إلى أداة يستقوي بها فريق من اللبنانيين على فريق آخر. وبدلاً من أن يكون هذا السلاح "درعاً" للدفاع عن كل لبنان صار أداة لتمزيق ما تبقى منه.