لسنا بحاجة لدولة عربية فاشلة أخرى
محتجّون غاضبون بسبب وفاة مواطن تحت التعذيب، يهتفون "الشعب يريد إسقاط النظام" و"ارحل"، فتهاجمهم قوات الأمن بقنابل الغاز والهراوات الخشبية. لولم يكن اسم رام الله مكتوباً على الشاشة، لكان يمكن أن يحسبها الرائي مشاهد من أي دولة عربية.
في بيان المنظمات الحقوقية الفلسطينية عن وفاة الناشط نزار بنات، والذي تلاه رئيس الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، عمّار الدويك، نقرأ وصفاً بشعاً، ومألوفاً أيضا: "بعد تشريح الجثمان تأكّدت وجود إصاباتٍ تتمثل في كدمات وتسحجات في مناطق عديدة من الجسم، بما في ذلك الرأس والعنق والكتفان والصدر والظهر والأطراف العلوية والسفلية، مع وجود آثار تربيط على المعصمين، وكسور في الأضلاع". وروت أسرة نزار أن عناصر الأمن الفلسطيني اقتحموا المنزل، محطّمين الأبواب والنوافذ، وضربوه بقضيب حديدي، ورشّوا رذاذ الفلفل في عينيه، قبل أن يجرّدوه من ثيابه، ويسحبوه إلى الخارج. .. مشهد قاسٍ ومألوف آخر. .. وفي المقابل، ادعاء أجهزة أمن السلطة أن الوفاة طبيعية، وتصادف حدوثها الآن تحديدا، هي عبارات مألوفة جدا على الصعيد العربي.
لا يمثل مقتل بنات حادثة فردية. لطالما لاحقت السلطة الفلسطينية كل معارض بشتى الطرق، بدءاً من استخدام الوظائف الحكومية عطايا تُمنح أو تمنع، ومرورا بفض المظاهرات، وانتهاء بالتعذيب والقتل.
بالتزامن مع الواقعة كان الرئيس محمود عباس يعقد اجتماعاً مع المجلس الثوري لحركة فتح، حيث قال إنه لن يسمح بسرقة الثورة، وخاطب مستمعيه: "ربما أقسو عليكم أحياناً، وهذا ليس بقصد الإحباط أو الإساءة أو الإهانة، لا سمح الله، وإنما من باب المحبة والاحترام والتوجيه والإرشاد". خطاب عربي مألوف آخر، حيث الرئيس هو مالك الوطنية والحقيقة، وهو أبٌ يوجّه أولاده وقد يقسو عليهم لمصلحتهم.
على الجانب الفلسطيني الآخر، تبدو تقاطعات واسعة إلى حد مدهش. اندفع أنصار حركة حماس لمهاجمة جريمة مقتل نزار، لكنهم يُنكرون ممارسات شبيهة ويبرّرونها، أقربها واقعة مقتل عصام السعافين في العام الماضي، حيث توفي أيضا فور اعتقاله. قالت داخلية "حماس" أيضا، في حينه، إن أسباب الوفاة طبيعية، وإنه كان مريضاً بأمراض أخرى قبل القبض عليه، (هكذا!) وإن اعترفت بأنه لم يلق العناية الطبية الكافية.
للمفارقة، عمّار الدويك الحقوقي الذي أعلن بيان وفاة بنات، وهو من نفى رواية داخلية "حماس"، وقال إن طبيبا من مركزه شارك بالتشريح، وتبيّن وجود آثار كدمات على جسد السعافين، ما قد يشير إلى تعذيبه، وطالب بجهة تحقيق مستقلة، وليس تحقيقات داخلية "حماس"، حيث المتهم هو المحقق والحكم.
بالتزامن مع الحرب أخيرا، احتفى فلسطينيون بالأثر العالمي الكبير لتقرير "هيومن رايتس ووتش" الذي وثق ممارسات الفصل العنصري الإسرائيلية، لكن جولة على موقع المنظمة نفسها تطلعنا على تقاريرها السنوية التي توثق وقائع انتهاكات سلطتي الأمر الواقع، في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتي قد ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية على حد وصف المنظمة.
في تقرير 2019، على سبيل المثال، وصف مطوّل لممارسات الاعتقال التعسّفي والتعذيب على الجانبين، والتي وصفتها المنظمة بالممنهجة، حيث اعتقلت سلطة رام الله نحو 1600 شخص، بسبب التعبير السلمي عن الرأي، بينما اعتقلت حركة حماس نحو ألف شخص، جلهم من المتظاهرين في حراك "بدنا نعيش"، وشملت القائمة صحافيين وحقوقيين. وأوصت المنظمة الجهات الدولية بوقف التمويل لأجهزة المخابرات والأمن الوقائي التابعة لسلطة رام الله، والأمن الداخلي التابع لـ"حماس".
لنقلها بوضوح، إذا كان هدف تحرير فلسطين هو إنشاء دولة عربية فاشلة أخرى، فنحن لسنا بحاجة إليها. لدينا ما يكفي ويفيض من القادة العباقرة الملهمين، ورجال الأمن الدمويين، وروابط النفاق والفساد. جرّبت دول عربية وغير عربية نموذج حكم قادة الاستقلال المستبدّين، في الجزائر ومصر والمغرب وإريتريا وزيمبابوي وغيرها. قد يكون الحكم وطنياً جدّا، وناجحا في إنهاء الاحتلال والاستعمار، لكن تلك الأنماط لم تنه معاناة البشر، بل أحيانا كان الاحتلال الخارجي أفضل، في بعض الوجوه، من الاحتلال الداخلي.
وفضلا عن ذلك، هذه فرضية مستحيلة في الحالة الفلسطينية تحديدا، بسبب تشابكها بالمواقف العالمية الرسمية والشعبية. تقدّم إسرائيل نفسها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط الدموي والهمجي، كيف يقدّم الفلسطينيون سردية أخرى؟ .. إلى فلسطين طريق واحد يمرّ عبر الديمقراطية.