"لسّاها ثورة يناير"
من المفترض، نظريًا، أن ثورة يناير ترقد منكفئة على جراحها في هذه اللحظة، والحاصل، عمليًا، أنّ كل من لهم علاقة بها في السجون أو في المنافي، أو غاطسون في آبار الصمت الإجباري، والعجز عن فعل أي شيء. وعلى الرغم من ذلك، لا يترك السيسي مناسبة إلا ويحذر الجماهير من احتمالات استعادة يناير، ويحرّض على المؤمنين بها طريقًا إلى التغيير والتحرّر من سجن اللحظة الراهنة.
في غضون أربع وعشرين ساعة، فقط، شنت مؤسسة الانقلاب غارتين عنيفتين على ثورة يناير، الأولى نفذها حبيب العادلي، وزير داخلية حسني مبارك، أول من أمس، حين أعطته المحكمة الميكروفون ليخطب في الجماهير معلنًا أن "يناير مؤامرة أجنبية لإسقاط الأنظمة العربية ومنها وليست ثورة".
هذا منطقي ومتوقع من وزير داخلية جمهورية القمع الذي قامت الثورة ضده، غير أن أبرز ما فيه هو الربط بين الحالة المصرية والحالة في دول عربية أخرى ناصبت ثورة يناير العداء، واعتبرتها، مع شقيقاتها من ثورات الربيع العربي، التهديد الأخطر لعروش الطغيان والتخلف والتبعية.
يصعد حبيب العادلي إلى منصّة الهجوم على يناير في لحظةٍ شديدة الدلالة، هي لحظة جمال خاشقجي التي تتقاطع مع لحظة خالد سعيد في مصر، وقبلها محمد البوعزيزي في تونس، تلك اللحظة التي فجرت ينابيع الغضب العربي، ضد التغييب الكامل للحريات، ونضالًا مشروعًا من أجل الكرامة الإنسانية والديمقراطية.
في اليوم التالي، أمس، يكرّر عبد الفتاح السيسي كلمات حبيب العادلي "أقول دائمًا إن ما حدث في 2011 هو علاج خاطئ لتشخيص خاطئ، فالبعض قدّم للناس صورة عن أن التغيير من الممكن وأن يحدث بهذه الطريقة".
هذه الحالة من الرعب من شبح يناير تأتي امتدادًا لمحاولاتٍ مستميتةٍ من أنظمة الطغيان العربي التي تسلك مثل تشكيلاتٍ عصابية، لقتل الثورة وتمزيقها بالمناشير، في أقبية التعذيب، وفي ذلك قال السيسي استباقًا لذكراها السادسة "في جهود اتعملت للإيقاع بين الشرطة والجيش في 2011.. وبين الشرطة والشعب في 2011، وبين الجيش والشعب في 2011".
السيسي، ومعسكر المستبدّين العرب، ينظّرون للجمهور الربيع العربي نظرة عتاة الكيان الصهيوني إلى الشعب الفلسطيني، فإذا كانت المعادلة هناك تقول إن تحقيق السلام يتطلب قتل العرب، فإن جوهر المعادلة هنا أن تحقيق الاستقرار يتطلب قتل الربيع العربي، والتخلص من أهل الثورات.
وطوال أكثر من خمسة أعوام، لم تتوقف الحرب المجنونة ضد الربيع العربي، باستخدام أقذر الأسلحة وأشدّها فتكًا، في ظل أوضاعٍ دوليةٍ منحازةٍ للاستبداد. ومع ذلك، لم يمت الحلم بإحياء الثورات، ولم يتخلّص المستبدون من الذعر من كل كلمةٍ تذكّر الجماهير بأن الأحلام المستحقة لا تموت، وأنه مهما تعاظمت القدرة المادية لدى عصابات الطغيان الإجرامي، فإن للحق وللعدل قوة أخلاقية وروحية الثورات أعلى وأبقى.
ومن حيث أراد السيسي وتحالف الطغاة إزالة الثورة من الوجدان والوعي الجمعيين، بتكرار التحذير منها والإساءة لها، فإنهم يقدّمون الدليل الحي على أنها باقية وحية في النفوس الجائعة إلى الحرية والكرامة.
باختصار إذا أردت أن تقيس قوة ثورة يناير، أحسب عدد المنتمين إليها الذين تضمّهم الزنازين والقبور والمنافي، مقابل عدد قاتليها وكارهيها من غلاة القتلة والفاسدين.