لكل امرئ حكاية تشبهه تماماً
كنت دائما أقرأ عذابات حكاية محمد شكري من خلال تقاطيع وجهه الصريحة، فكل نُدبة في الوجه تعطيك علامةً في الحكاية، حكايته، أو حكاية حياته التي قرأناها في "الخبز الحافي"، وكأن الوجه خريطة صادقة لحكاية صاحب الوجه، الحكاية التي لك خلف ظهرك تسعى على شفاه الآخرين، والوجه في شكري خريطة واضحة تحكي لك الحكاية لو أحسنت تأمّله، والكتب التي كتبها ما هي سوى تسجيل لبعض ما أعلنه الشخص من نفسه بعدما نسي بعضه وجمّل بعضه وتناسى بعضه.
في آخر مرة وأول مرة رأيت فيها يوسف إدريس، كانت ندوة تأبين للراحل لويس عوض قي أتيليه القاهرة. كان يحكي بيقين، وكأنه العارف الوحيد بحياة لويس عوض. كان الوجه جميلاً وحادّاً ولا يلتفت إلى الآخرين، ولا يعبأ بأي سرد لتاريخ وقائع رحلة لويس عوض، وكأنه يقول الحقيقة الوحيدة. راجعه الراحل غالي شكري في بعض تواريخ نشر آخر مقالات عوض كي يصحّح له معلومة، فردّ بحدّة: "خلاص خلاص، إن كان كده عادي". وأخذ يكرّر كلمة عادي بأنفة عدّة مرات، وكأنه لا يقدّم أي اعتذار عن شيء، بل يتعالى حتى عن سماع التصحيح. كانت تقاطيع يوسف إدريس مليئة بالثقة في معلوماته، حتى وإن أخطأ فيها، والوجه في قمّة الرفعة بكل حركاته وسكناته، وكأنه وجهٌ من هناك، حيث التمكين الكامل لكل ما يقوله للجمهور المُنصت له والفرِح بوجوده والمنبهر أيضاً، حتى وإن كان يشوبُه الخطأ، وكأنه لا يسرد تاريخ مفكّر، بل يسرُد تاريخه هو ووجاهته هو وحكايته هو.
وجه إدريس عامرٌ بصحة حكايته ونزاهتها من دون أن يخدش مصداقيّتها أي آخر، تلك القداسة المبطّنة بالثقة المطلقة في الشخص، هل ساعدته كي يفرض نفسه على مملكة القصة القصيرة في خمسينيات القرن الماضي، أم هناك حكايات أخرى ضرب فيها الرجل بأسهم الثقة مكنته من ذلك؟
تستطيع أن تقرأ في وجه نجيب محفوظ بسهولة مؤشّرات طيبة الموظف المستور، ابن الحي الشعبي، وإنْ كان لا يمكنك، بلؤمه وصمته وتأملاته، وأنت في حضرته، من قراءة بقية خفاياه وحكايته، وإنْ كانت حكاية محفوظ مبثوثة بذكاء في ثنايا رواياته، ولعلّ ذلك ما جعله يزهد في تسجيل سيرته أو حكايته، وعلّل رفضه بأن حياته في رواياته. يبقي وجه محفوظ المخاتل والطيب والودود والمتحفظ على حكايته، وكأن الرجل يبتعد بوجهه عن البوح، كي يقول حكايته في رواياته، إلا أن "أصداء السيرة الذاتية" و"أحلام فترة النقاهة" قالتا ما استطاع نجيب محفوظ أن يخفيه، لأنها كانت آخر علاقة مباشرة مع الكتابة، فاستطاع أن يصوغ حياته بجملٍ أقرب إلى الشعر أو الشطحات أو الشذرات. كان كصوفي تكتّم على حكايته، حتى أشار إليه الموت بقرب النهاية أو اقترابها، فباح، حتى وإن لازمه ذلك التحوّط واللؤم أيضاً، ولكنه كلؤم الشيوخ حينما تقترب آجالهم من نهايتها؛ لم تكن حكاية محفوظ شاقّة وعنيفة، وبها عذابات وثارات طفولة وشباب كمحمد شكري، ولا عنيدة وشرسة وواثقة ومتباهية كيوسف إدريس "يبارز أهل الشركس في ملاحة الوجه وعافيته"، كان بالوجه دلال العشّاق وغزواتهم ومباهاتهم، وكان وجه محفوظ أقرب إلى العاشق المتمهّل الذي يدبر أحابيله ويغزلها على مهل، مثل رواياته تماماً، وحكايته داخلية وخفية ولا مجال لإعلانها، ولا تمسّ من العامة، عكس حكايات يوسف إدريس التي تروى.
أحياناً، أرى رجلاً يضرب طفلته في المقهى ويزغر لها وكأن بينه وبينها ثارات. بعد قليل أكتشف أن البنت شقيّة جداً، وكأن لها حكايات في إغاظته، وقد تعوّدت على ذلك وهو أيضاً تعوّد. واضح أن الحكايات الخفية تساعد الاثنين على ذلك الأذى الذي تأملته فور رؤيتي له، إلا أن البنت سريعاً ما عادت إليها ابتسامتها، وبدأت تشرب الشاي، وتغيظ أختها الأكبر منها قليلاً، فعاود الأب زغراته للصغرى الشقيّة، وطبطب على الكبرى. كانت وجوه الثلاثة مباراةً لكي تعرف أو تحدس حكاياتهم هناك داخل المنزل. وعرفتُ ساعتها أن الوجوه، بكل وضوح، تقول ما نخفيه في الحكاية، تلك الحكاية التي ستنمو فيما بعد، مع الأيام التالية والأحداث، في وجه (وملامح) البنت الصغرى الشقيّة أو الكبرى الهادئة أو ذلك الأب المسكين المعذّب بقسوته وفقره.