لك ما تريد .. ولنا مُريد
لك ما تريد، يا مريد، فتخيّر بقاءً أو رحيلًا. لكن عليك أن تعلم أن رحيلك، ولو خطوة واحدة، يعني ابتعاد فلسطين عنّا ميلًا كاملًا، فكيف إذا كان الرحيل تامًّا غير منقوص.. بهذه الحقيقة فقط، نقرأ فداحة خسارتك، يا مريد، كما كنا نقرأ فداحة قصائدك، فمع شاعرٍ مثلك أحبّ الوطن من المنفى، في وسعنا أن نفسّر الانتماء القائم على الهجر، تمامًا كما فهمه الهذليّ، وهو يخاطب محبوبته: "هجرتكِ حتى قيلَ لا يعرفُ الهوى/ وزرتكِ حتى قيل ليس له صبرُ".
هل هو ابتعادٌ من أجل مزيد من الاقتراب إذن؟ الابتعاد عن وطنٍ لم يعد يمتلك مواصفات وطنك الأول؛ والاقتراب من وطنٍ متخيّل تعيد تطهيره وتأثيثه، على غرار ما انتهجته كوكبة أخرى من أقرانك المبدعين، ليس ابتداءً بغسان كنفاني ولا انتهاء بمحمود درويش؛ لأن الرؤية الأبعد هي الأوضح، سيّما حين يتعكّر صفوها بالغزاة. آنذاك، يدرك الشاعر أن قصيدته ستظلّ محدودة بفضلات الأكسجين الذي يمنّ به المحتل من أجهزة التنفس الاصطناعي على الشعب المستلب. وسيكون كل شيء مرشحًا للخيانة، بدءًا من الشجرة التي تظلّل الجندي المدجّج بأسلحة الموت، وصولًا إلى التراب الذي يطمس جثته، عندها يغدو الرحيل أزيد من خيار.
رحيلك الأول كان رحيلًا إلى منفى يشبه الوطن الأول، سيّما حين لذتَ برضوى عاشور، التي أحببتها وأحبتك، فحصدتما معًا ثنائية فريدة من تزاوجٍ لم ينحصر في التقاء جنسين، بل تعدّاه إلى التقاء عاطفي فنيّ أدبيّ، بين الشعر والنقد، وبين القصيدة والرواية. والأهمّ بين الوطن والمنفى. فقد مثّلت رضوى لك وطنًا "بديلًا" مؤقتًا مضمّخًا بالحرية التي افتقدتها في وطنك الأول، بينما مثّلتَ لها المنفى الذي أرادته هي، بكامل حريّتها، لتحلّق في الفضاء الفلسطيني المسافر على أجنحة مبدعيه في عواصم العالم، فكتبتْ دراسة عميقةً في أعمال الراحل غسان كنفاني "الطريق إلى الخيمة الأخرى". التقى الحبّ بالحرب، والورد بالرصاص، وتماهت الحدود بين استدارة العين وفوّهة المسدس؛ لأن الحبيبة وطن، والوطن حبيبة، وكلاهما يستحقّ الحياة والموت. كان مزيجًا يدوّنه التاريخ للجغرافيا، عندما يعانق النيل بحيرة طبريّا، ويقبّل الزيتون الباكي قطن الصعيد المتعب، وكان تبادلًا أنثروبولوجيًا، يحتضن فيه الملك الكنعاني زكريجل معشوقته كليوباترا، ويستعير فيه مريد البرغوثي من رضوى خلود أبي الهول، ليقاوم فيه انقراض القضية، وتستعير منه رضوى فتنة أسوار عكّا، وهي تطيح نابليون. وأخيرًا أثمر لقاء الوطن والمنفى شاعرًا لافتًا هو تميم البرغوثي، الذي اختاره القدر لحمل تلك الثنائية المتعاكسة، فانعكس تمزّقها في قصائده المتوتّرة التي تخاطب المنفى بلغة الوطن، والوطن بلغة المنفى.
وعندما فَجَعَ القدر مريد برحيل وطنه المؤقت (رضوى) قبل أعوام، تكهّن أصدقاء المحارب المقرّبون بقرب رحيله هو الآخر؛ لأن المقاتل قد انكشف ظهره بسقوط جداره الورديّ، وأصبح يتجرّع مرارة المنفى بعلقمها الوافر، ولم يكن ثمّة ما يقتات عليه، غير أوراق الزهور الحمراء التي كان يزمع تقديمها لرضوى قبل أن يفجع برحيلها. وعندها، آثر أن يهدي إليها جثّته بدل الورد في عيد الحبّ، منسجمًا مع فروسيته عاشقا تستوي عنده القبلة والرصاصة.
رحل مريد، إذن، وابتعدت فلسطين ميلًا جديدًا، لكنه ابتعاد يدفع ثمنه "مريدو" مريد هذه المرّة، وما أغزرهم. ذلك أن هؤلاء الذين أسقطوا من حساباتهم سائر الرموز الأخرى، سيما السياسية منها، تلك التي خدعتهم بحلم العودة، لم يعودوا يراهنون سوى على الشعراء الذين فرّوا بجلود حريتهم من وطنٍ لا يشبه الوطن، على غرار ما كان عليه محمود درويش قبلًا، الذي ما تزال مقولته خالدة، وهو يُسأل عن شعوره عندما زار فلسطين، فأجاب: "عدتُ ولم أعد".
هذا الشعب الذي نفض يديه من سياسيّيه وتجّاره التحق بالقصيدة وشاعرها، ولم يعد يراهن إلا على رموزٍ من أمثال درويش ومريد. ولذا فهو وحده من يشعر بفداحة خسارة مثل هؤلاء الذين لا يُبقون على فلسطين حيّة وحسب، بل حرّة من المحتلّ ومن "مريديه"، ويا لشساعة المسافات ما بين مريد و"مريد".
ارحل، إذن، كما تريد يا مريد، غير أنك ستظلّ فينا.. كما نريد.