للمثلَّث الأحمر حكاية
منذ اجتاحت قوّات الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزّة، وتوغّلت في أراضيه، اعتدنا مشاهدة الفيديوهات التي يُوزّعها الإعلام العسكري لكتائب القسّام، ولغيرها من الفصائل المُقاوِمة، وتُظهر العمليات التي يُنفّذها مقاتلوها ضدّ جنود الاحتلال وضبّاطه ودبّاباته ومُعدّاته في مناطق مختلفة من القطاع، وألفنا منظرَ المثلَّث الأحمرالمقلوب، الذي يظهر في هذه الفيديوهات مُحدِّداً ما يستهدفه هؤلاء المقاتلون الشجعان من مواقعَ وآلياتٍ وقوّاتٍ، قبل أن تنطلق قذائفهم نحوها، مُوقِعة فيها الخسائر، وما أكثر ما رأينا من مشاهدَ لجنودٍ إسرائيليين يسقطون قتلى، أو جرحى، أو يفرّون من الموقع المُستهدَف.
منذ قامت دولة الاحتلال، بل حتّى قبل أن تقوم، قاتل الفلسطينيون وقدّموا التضحيات في سبيل تحرير وطنهم المُحتَلّ. ولكن، لم يكن في الأزمنة الماضية متيسِّراً تصويرُ ما يقوم به هؤلاء المقاتلون من عمليات، حتّى جاء زمنٌ أصبح فيه ممكناً، لا التقاط الصور وحدها، وإنّما تصوير الفيديوهات لما ينفّذه مقاتلو اليوم من عمليات ضدّ العدو المُحتَلّ.
يخضع الإعلام، في العالم عامّةً، لعددٍ محدودٍ من الوكالات والمحطّات المتحكّمة في اختيار الصور والفيديوهات التي تبثّ النزاعات وتجيّرها لصالح السردية التي يتبناها أباطرة الإعلام عن الصراعات والحروب الجارية في مناطق مختلفة من العالم، لعلّ فلسطين أبرزها اليوم. ورغم ذلك، أصبح لمقاومي المُحتَلّ إعلامُهم، الذي يقاتل بالكلمة والصورة والفيديو بطريقةٍ مكّنتنا، ليس من قراءة البيانات العسكرية أو سماعها فقط، وإنّما أيضاً من مشاهدة الفيديوهات التي تُوثّق ما يقومون به من استهدافات للعدوّ وقواته، حتّى غدا المثلَّث الأحمرُ في هذه الفيديوهات رمزاً للكفاح الفلسطيني المسلّح ضدّ الاحتلال. في إطار الحملة الغربية المسعورة ضدّ كلّ ما هو فلسطيني، والتي طاولت، فيما طاولت، رموزَ الفلسطينيين كالكوفية السوداء التي غدت علامةً لفلسطين ولقضية شعبها، أصبح المثلَّث الأحمرُ المقلوب، هو الآخر، هدفاً لهذه الحملة، خاصةً أنّه قد ظهر في إطار موجة احتجاجات متضامنة مع فلسطينيين شهدتها العديد من الجامعات في أنحاء العالم، فضلاً عن استخدامه في منصّات التواصل الاجتماعي، وفي مظاهرات مناهضة للحرب.
من دلائل استهداف هذا المثلَّث إقرارُ برلمان ولاية برلين في ألمانيا، في مطلع يوليو/ تمّوز الماضي، اقتراحاً طارئاً يرمي إلى تمديد الحظر الذي فرضته الحكومة الألمانية على حركة "حماس"، ليشمل أيّ استخدام صريح لشعار "المثلَّث الأحمر"، وإدراج استخدامه في خانة "رموز المنظّمات المناهضة للدستور" أو "المنظّمات الإرهابية"، التي تصل عقوبته إلى السجن مدَّةً تصل إلى ثلاث سنوات. وكان حزبا الائتلاف الحاكم في الولاية؛ الحزب المسيحي الديمقراطي والحزب الاشتراكي الديمقراطي، هما من تقدّما بالمقترح الذي أُقرّ، وينصّ على أنّ المثلَّث الأحمر المقلوب "أضحى يُشكّل تهديداً للسلامة والنظام العام، ويثير الخوف خاصّة داخل المجتمع اليهودي". وجاء في المقترح أنّ "الهدف منع رؤية الشعار في الأماكن العامة وضمان معاقبة استخدامه قانونياً، سواء في سياق الصراع في الشرق الأوسط أو في سياق حماس". وتدرس وزارة الداخلية الألمانية إمكانيةَ فرض هذا الحظر في عموم البلاد، ولا يقتصر على العاصمة وحدها.
من المفارقات ذات الدلالة والمعنى، ما دمنا نتحدّث عن ألمانيا بالذات، أنّ "حماس" ليست هي أول من استخدم هذا المثلَّث في الفيديوهات التي توزّعها عن عملياتها في غزّة، فقد كان يُستخدم سابقاً من ضحايا النازيّة للإشارة إلى أنّهم كانوا سجناء سياسيين داخل معسكرات الاعتقال. ووفق تقرير نُشر في موقع "دي دبليو"، فإنّه، ومنذ منتصف ثلاثينيّات القرن الماضي، جرى إجبار السجناء السياسيين القابعين داخل معسكرات الاعتقال النازيّة على ارتداء شارات من القماش رُسم عليها المثلَّث الأحمر، في إطار منظومة وصم عامّة. وعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945، استخدم الناجون من معسكرات الاعتقال النازيّة، وأقاربهم، والمتعاطفين معهم، رمز "المثلَّث الأحمر" شارةً شرفيةً لنضالهم.
هذه الخلفية التاريخية هي ما حمل القوى المعادية للنازيّة في ألمانيا، ومن ضمنها "جمعية مضطهدي النظام النازي - اتحاد مناهضي الفاشية"، على اتهام الأحزاب السياسية التي جرّمت استخدام المثلَّث الأحمر رمزاً، بـ"فقدان الذاكرة التاريخية"، وعلى انتقاد أعضاء برلمان ولاية برلين بالتسرّع في الانخراط في سياسات في سياق مناهضة معاداة الساميّة والعداء لإسرائيل، ويمكننا إضافة أنّ هذا الهوس بنصرة إسرائيل وشيطنة الفلسطينيين، دفع المبتلين به إلى التنكّر لرمزٍ مُعبّر في تاريخ بلادهم وأمتهم.