لماذا اغتيلَ إسماعيل هنيّة؟
بالنظر إلى الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، وهدفها المُعلن بالقضاء على الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، فإنّ عملية اغتيال الزعيم السياسي للحركة، إسماعيل هنيّة، لم يكن لها أثر يُذكر في مجريات الحرب على القطاع، وعلى "حماس"، وعلى الداخل الإسرائيلي، لأنّ هنيّة ليس قيادياً عسكرياً في الحركة، ودورُه خارج غزّة مرتبط بالمفاوضات، ويُعتبر هدفاً سهلاً لو كان مُستهدَفاً من قَبْل، لأنّ تحرّكاته العامّة وجولاته الدبلوماسية علنيّة، واغتياله يعني اغتيال بنيامين نتنياهو مسار المفاوضات بشأن إطلاق سراح الأسرى والمخطوفين، فيما تعيين يحيى السنوار خلفاً لهنيّة في قيادة الحركة يزيد من قوّتها. كما أنّ عملية الاغتيال في طهران استوجَبت ردَّ الأخيرة، ما أوقع الداخل الإسرائيلي في حالة من الاستنفار والتخبّط، وانتظار الردّ الإيراني المؤكَّد، وكيفية تجنّبه. هذا يعني أنّ هناك أهدافاً أخرى للعملية، غير الاغتيال بحدّ ذاته.
مكان عملية اغتيال هنيّة ودقّتها يثيران جدلاً في إيران بشأن عمق الاختراق الإسرائيلي للمؤسّسات الأمنية والاستخباراتية الإيرانية
وقد جاءت عملية الاغتيال للتغطية على الفشل في غزّة، لكنَّها أيضاً تُمثّل تصعيداً إسرائيلياً ضمن حرب ردّات الفعل، والرسائل المتبادلة بين طهران وتلّ أبيب منذ عملية طوفان الأقصى، خاصَّة أنّها أتت بعد ساعات من اغتيال قيادي رفيع في حزب الله، فؤاد شكر، جنوبي بيروت، بحجة الردِّ على ضربة صاروخية على مرتفعات الجولان. أهمّية عملية الاغتيال لإسرائيل تأتي في توقيتها ومكانها ودقّتها والرسائل الخطيرة التي تحملُها، فالتوقيت هو مراسم تنصيب الرئيس الجديد، فأرادت تلّ أبيب تخريب الاحتفال برئيس إصلاحي إيراني، جاء به المُرشد الأعلى، علي خامنئي، لتحسين واقع المفاوضات مع الغرب وواشنطن بشأن الاتفاق النووي، خاصّة أنّ بايدن يسعى إلى تحقيق إنجازٍ قبل مغادرته البيت الأبيض؛ ولضمان استمرار نهج الراحلين إبراهيم رئيسي وأمير عبد اللهيان بخصوص تحسين العلاقات مع العالم العربي. كما أنّ انسحاب بايدن من السباق الرئاسي زاد من جرأة نتنياهو تجاه طهران، وهو الذي يريد استباق التصعيد، وتصعيب مهمّة التهدئة على المرشّحة الديمقراطية كامالا هاريس فيما لو فازت بالانتخابات الرئاسية.
أما مكان عملية الاغتيال ودقّتها فهما العاملان الأكثر أهمّية اللذان يثيران جدلاً في إيران بشأن عمق الاختراق الإسرائيلي للمؤسّسات الأمنية والاستخباراتية الإيرانية. فهناك مسؤولون سابقون يتحدّثون عن خطورة أن يُقتلَ هنيّة بصاروخ أو بقذيفة قصيرة المدى دخلت من نافذة غرفته في مقرٍّ للحرس الثوري الإيراني في قلب طهران، ما يطرح تساؤلاً عن درجة تطوّر شبكة الاستخبارات الإسرائيلية في إيران، وقدرتها على الحصول على هذه المعلومات كلّها. وفي هذا السياق يستعيد المنتقدون حوادث اختراق أمني واستخباراتي إسرائيلي، في مقدمها حادثة اغتيال الموساد عالم الذرّة الإيراني، والجنرال في الحرس الثوري محسن فخري زادة (2020)، باستعمال مدفع جُمّع في مكان قريب من منزله، أُطلق من بُعدٍ بَعدَ أن غادر المنفّذون. وكذلك اغتيال الرجل الثاني في تنظيم القاعدة، عبد الله أحمد عبد الله، الملّقب بأبي محمد المصري، عبر إطلاق النار عليه من عملاء لإسرائيل على دراجات نارية في أغسطس/ آب 2020، والذي أنكرته طهران في سياق عدم اعترافها بإيواء عناصرَ من تنظيم القاعدة. وبالمثل كان الردّ الإسرائيلي على أول هجوم إيراني مباشر في أراضٍ إسرائيلية في إبريل/ نيسان الماضي عبر ضرب رادار لنظام الدفاع الصاروخي الروسي إس 300، وسط إيران، ومركز انطلاق الضربة غير واضح تماماً، لكنه ضمَّ في الأقلّ صاروخاً واحداً أطلق من طائرة حربية خارج إيران، وهجوماً صغيراً بمروحيات رباعية (درونز) قد تكون أطلقت من داخل إيران لإرباك الدفاعات الجوية.
عملية اغتيال هنيّة جاءت للتغطية على الفشل في غزّة، وتصعيد إسرائيلي ضمن حرب ردّات الفعل منذ عملية طوفان الأقصى
انتقدت صحيفة الجمهورية الإسلامية (المحافظة) السلطات، لأنّها لم تُعِر اهتماماً للتحذيرات السابقة بشأن الاختراقات الإسرائيلية بعد اغتيالاتٍ سابقة مماثلة، وأنّ الأهم من الثأر سدّ طرقات التجنيد الاستخباراتي ومعرفة العملاء ومعاقبتهم؛ مُذكّرةً بالحالة التاريخية للجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، الذي اخترق مراتب عالية في الجيش السوري في الستينيّات، وتطلّب الأمرُ تنظيفاً جذرياً للمخابرات، والمكاتب الأمنية، بعد كشفه. وهنا تحضر أسماءٌ رفيعةُ المستوى في إيران تم تجنيدها من الخارج، مثل نائب وزير دفاع سابق، وأشخاص كانوا ضمن وفد المفاوضات لإقرار خطّة العمل الشاملة المشتركة بشأن البرنامج النووي في 2012، ومنهم شخصيات اقتصادية وسياسية؛ وهذا يعني انكشاف المجتمع الإيراني في أعلى المستويات أمام الموساد. فيما ينتقد وزيرٌ سابق للاستخبارات، هو علي يونسي، حالة التنافس بين وزارة الاستخبارات، واستخبارات الحرس الثوري، ووكالات الأمن، وأنّها منظّمات موازية مشغولة بمقاتلة من سمّاهم "المطلعين على بواطن الأمور"، بدلاً من كشف العملاء. حرب الجواسيس بين الطرفين قديمة، تُعلن طهران باستمرار كشف العملاء ومعاقبتهم، بينما تتكتم تلّ أبيب عنهم، ومنهم ضبّاط في مستويات رفيعة. لن نخوض في كيفية التجنيد، لكنّ إسرائيل تستعين بمخابرات غربية للقيام بهذه المهمّة وتطوير قدراتها الاستخباراتية، أمّا إيران فالمتاح أمامها الخبرات الروسية في هذا المجال، وهناك اتفاق تعاون شامل بين موسكو وطهران على وشك الإنجاز.
هناك من يرى في عملية اغتيال هنيّة في طهران جنوناً إسرائيلياً، وأنّ نتنياهو يريد إشعال حربٍ إقليمية واسعة، وأنّ إيران مسؤولة عن دعم "حماس"، وعن حرب الإسناد التي يقوم بها حزب الله جنوبي لبنان، والحوثيين في البحر الأحمر، لكن تفاصيل ودقّة تلك الضربة تحمل أخطر الرسائل الإسرائيلية لطهران، وهي أنّها تمَّت بعد يوم من لقائه الرئيس الإيراني بزشكيان، وبعد ساعات من لقائه المُرشد الأعلى للثورة الإسلامية، علي خامنئي، ما يضع مسألة أمن الرئيس والمرشد محلّ تساؤل في إيران، ويعيد طرح أسئلة بشأن إمكانية أن يكون مصرع الرئيس الإيراني السابق، إبراهيم رئيسي، حادثة مدبَّرة (؟)