لماذا تُقلّد الضحية جلّادها؟
قد تحتاج الإجابة عن السؤال أعلاه الى جهدٍ ذهنيٍّ شاق، ومعرفة نظرية غير متاحة للكاتب الصحافي المنهمك في جدول أعماله اليومي، كي يقف مع قرّائه على مكامن الشبه والتشابه بين الضحية والجلّاد في المظهر والمخبر، وفضّ بواطن هذه العقدة النفسية الغائرة في دهاليز النفس البشرية المعقّدة، ومن ثمّة تبسيط الإشكالية هذه بصورة تتناسب مع مساحة زاويةٍ أسبوعية محدودة الكلمات، وتفي، في الوقت ذاته، بالغاية المنشودة من طرح هذه المسألة العويصة في مهبّ هذه اللحظة السياسية المزدحمة بوقائع بالغة الإثارة، وتطورات ساخنة تستقطب الاهتمامات العامّة وتتصدّر العناوين.
غير أن ما أملى طرح سؤال العارف هذا، المبرّر تماماً في هذا الوقت العاصف بعلامات الاستفهام والتعجّب، هو هذا الفيض المتدفّق من الصور والمشاهد المبثوثة على مدار الأيام الماضية من قلب الحدث المتفاعل في الضفة الغربية المحتلة، حيث ينخرط المحلّلون والمراقبون في خضم الأجوبة المتعجّلة عن أسئلة المستقبل الملحّة، مثل متى وأين ستقع العملية الانتقامية الإسرائيلية المرتقبة، أو ما هي الخيارات المتوقّعة وردود الفعل المتبادلة والسيناريوهات المحتملة، من دون أن تلتفت سوى قلة قليلة من المخاطبين بهذه الوقائع المتسلسلة، إلى جانبٍ من بين أهم جوانب المضارع السياسي البعيد عن العين المجرّدة، ونعني به تلك العربدة وهذه الغطرسة اللتين تظهر فيهما قوات الاحتلال، وبعض أفرادها من أحفاد ناجين من الهولوكوست، وهم يقلدون طبائع الجلاد النازي، يستنسخون تصرّفاته ويحذون حذوَه. إذ أعادت الهجمة الصهيونية الفاشية على بلداتٍ، مثل حوارة وترمسعيّا وغيرهما، إلى المخيال الفلسطيني، كل ما كان قد انحفر في الذاكرة الجمعية من صور ومشاهد لم تمّحِ منذ النكبة الأولى، بما فيها تلك المجازر المروّعة التي قارفتها عصابات الأرغون والهاغاناه وشتيرن في دير ياسين والطنطورة وعدد كبير من المدن والقرى المنكوبة، بهدف اقتلاع السكّان وتهجيرهم، حيث استعاد هؤلاء إلى الذاكرة المشتركة تلك الجرائم الدموية المُفزعة، عندما هاجم مئات المستوطنين المسلحين، بحراسة جيش الاحتلال ودعمٍ منه، منازل قرويين عُزّل وممتلكاتهم ومزارعهم، ثم راحوا يشعلون النار، يقتلون ويحرقون كل ما طاولته أيديهم الآثمة.
غير أن نفراً من القوم، ساسة ومثقفين مسكونين بحسّ تاريخي عميق، استذكروا على الفور صفحة طويلة من مدوّنات المرحلة التمهيدية المبكّرة للحرب العالمية الثانية، التي شهدت ما عُرف باسم المحرقة اليهودية (الهولوكوست) على أيدي النازي، وأشاروا، في معرض التحذير من عمليات حرق البيوت والممتلكات في الضفة الغربية، إلى أن شيئاً من هذا حدث لليهود في تلك الحقبة الأوروبية، قبل الحرب العظمى وبعدها. وقال المولعون منهم بالمقارنات التاريخية: ما أشبه الليلة بالبارحة، ضحية جلّاد الأمس غير البعيد، هذه التي بنت مظلوميّتها من سردية تلك المحرقة، تحذو حذو عتاة حارقيها، تُقلدهم وتستنسخ أفعالهم السوداء، في مشهد يحاكي ما جرى في "ليلة الكريستال" أواخر عام 1938، حين أحرق النازيون وحطّموا، في ليلة واحدة، منازل (وممتلكات) اليهود في ألمانيا والنمسا وتشيكوسلوفاكيا ودول أوروبية أخرى.
وأحسب أن تلك الليلة الليلاء من التاريخ اليهودي المثقل بالنبذ والاتهام والاضطهاد في الديار الأوروبية لا تزال حيّة في ذاكرة المحتلين عامة، والمستوطنين خصوصا، وأن آثارها النفسية المعقّدة لا تزال تفعل فعلها في دواخلهم العميقة، ربما على نحوٍ لا إرادي، وأن الحسّ بالمظلومية جرّاء وقائع القتل والحرق أحد أهم الدوافع المحرّكة لما يبدو كأنه صار بمثابة غريزة متأصّلة في هذا السلوك الوحشي الجاري تظهيرُه بالصوت والصورة على أيدي أحفادٍ من عاصروا "ليلة الكريستال"، هؤلاء الذين تحدوهم رغبة انتقامٍ عمياء، ليس من مضطهديهم وحارقيهم الأوروبيين، وإنما، ويا لسخرية الأقدار، من ضحيتهم العزلاء في المدن والبلدات الفلسطينية هذه المرّة.
قد لا تكون هذه المقاربة السريعة لمكوّنات مشهد محاكاة الضحية جلادها كافيةً لشرح ديناميات هذه الظاهرة المتكرّرة وبيانها في أزمنة وأمكنة عديدة، وهو استعراضٌ لا يتّسع له المقام، إلا أنها عجالة تكفي لإلقاء بعض الضوء على سلوك المستوطنين الفاشيين في ترمسعيّا وأخواتها، وإثبات حقيقة أن المثل الأعلى للضحية، قدوتها الأبدية، هو الجلّاد الذي سبق أن أسقاها كؤوساً طافحات بالدم والإهانة والذلّ.