لماذا على السوريين إسقاط هيئة التفاوض؟
ما زال الجدل مستمرّاً داخل الأوساط السورية في المستويين، الرسمي والشعبي، بشأن الإجراء الخطير الذي اتّخذته هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة السورية، قبل أيّام، بقرارها تعديل نظامها الداخلي، وإتاحة المجال لبدر جاموس بالتمديد لسنتَين رئيساً للهيئة بدلاً من سنة واحدة، الأمر الذي فجّر المشهد السياسي السوري ووضعه في المحكّ، لما يحمله هذا القرار من أخطار وتداعيات على مصير الثورة السورية وتضحيات السوريين، وهو الأمر الذي غاب عن أذهان كثيرين مُكتفين بالانشغال بالمهاترات الجانبية وتسجيل نقاط مُتبادَلة، إلى جانب إشغال السوريين بتبادل الاتهامات والتخوين، فرأينا حالة انقسام داخل النُّخَب السورية، بين مُؤيّد ومُعارِض لهذا الإجراء.
بعيداً عن المناكفات السورية السورية فما تنتهجه مُؤسّسات المُعارَضة السورية الرسمية أخيراً، من "ائتلاف" وحكومة مُؤقّتة و"هيئة تفاوض"، يعد الأخطرعلى القضية السورية منذ تاريخ تأسيس تلك المُؤسّسات، بسبب أنّ جديد قرارات الهيئة العليا التفاوض جاء لوضع آخر اللمسات على تشكيل هيئة تفاوضية تُلبّي مُتطلّبات الدول الإقليمية والدولية، والداعمة للنظام السوري، للجلوس معه إلى طاولة المفاوضات لحظة نضج مسار التطبيع بين أنقرة ودمشق، الذي يُعدّ العائق الوحيد أمام اللاعبين كلّهم في الملفّ السوري، ففي حال استطاعت الدول الداعمة لهذا المسار تقريب وجهات النظر بين الطرفَين وإيجاد حلول وتسويات للملفّات العالقة (عودة اللاجئين، حل ملفّ الأكراد والتنظيمات الإرهابية في شرق الفرات، وفي شمال غربي سورية) ستكون كلّ العوائق قد أُزيحت من أمام عودة العلاقات الكاملة بين دمشق وأنقرة.
مع مجيء بدر جاموس إلى "هيئة التفاوض" (2022) بقيت مُعطّلة بالكامل، ولم تعقد أيّ جولة لإنجاز مهمّتها بتطبيق القرار 2254
آنذاك، ستكون طاولة الحوار جاهزة لتطبيق القرار 2254 (أكد أنّ الشعب السوري هو من يقرّر مستقبل البلاد ودعا إلى إجراء انتخابات برعاية أممية وإلى وقف أيّ هجمات ضدّ المدنيين) لكن بالرؤيتَين الروسية والتركية، مع وجود هيئة تفاوضية مُدجّنة جاهزة لتقاسم السلطة مع النظام، إن كان بوجود الأسد أو من دونه، بمعنى أنّ روسيا وتركيا ستعملان على إمساك زمام الجغرافيا السورية وترتيبها من جديد، وتقليل الوجود الإيراني في سورية، وإنهاء ملفَّي اللاجئين وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وتأمين مصالحهما الاستراتيجية في سورية، مُستغلّين وجود بشّار الأسد في رأس النظام، ومجيء دونالد ترامب إلى البيت الأبيض من جديد، حينها سيكون الأسد مُجبراً على تفعيل الحلّ السياسي من خلال تطبيق القرار 2254، ذلك لأنّ القرار سيكون أُفرغ كلّياً من مضامينه بعد الإجراءات العملية التي سنشهدها في الأرض خلال العامَين القادمَين، ولأنّ جلسات التفاوض تحتاج إلى طرف رسمي مُمثِّلاً عن الشعب السوري، ستكون "هيئة التفاوض"، لصاحبها بدر جاموس، جاهزة للجلوس مع النظام بهدف التصديق والتوقيع على ما سيُتَّفَق عليه بين الدول التي صنعت مؤسّسات المُعارَضة وهندستها طيلة سنوات، وصادرت قرارها، وحافظت على بقائها لتنفيذ مهمَّتها الأخيرة، وعند مجيء هذه اللحظة بالنسبة إلى لغة الدول الكبرى، فغير مُهمّ بعدها إن بقي الأسد في السلطة أو رُتّب له خروج آمن للهرب من سورية، المُهمّ لديهم منع حدوث فوضى على غرار ما حدث في ليبيا والعراق. من هنا تأتي أهمّية الخطوة التي أقدم عليها بدر جاموس في تعديل النظام الداخلي داخل "هيئة التفاوض"، مُستفيداً من نسيج العلاقات داخل كتلتي الفصائل العسكرية و"هيئة التنسيق" لتحقيق النسبة المطلوبة في تمرير التعديل لبقائه رئيساً لها ثلاث سنوات قادمة، مدفوعاً على ما يبدو (ومحميّاً) من الدول التي يأتمر بأمرها، وهي الدول نفسها التي صنعت بقيّة مؤسّسات المُعارضة ("الائتلاف" والحكومة المُؤقّتة) وعطّلتها وصادرت قرارها طيلة سنوات، ومع تهميش دور الائتلاف والحكومة المُؤقّتة، بدا التوجّه الحالي نحو اختزال تلك المؤسّسات كلّها لاحقاً في "هيئة التفاوض" التي سيُوكل إليها المهمّة الأخيرة في تصفية القضية السورية. لأجل ذلك، قال بدر جاموس في ختام آخر اجتماع للهيئة الاثنين الماضي (22/7/2024) إنّ مرجعيتهم الشعب السوري، ولم يقل "الائتلاف" الذي انبثقت عنه الهيئة، في إشارة واضحة إلى احتمال إنهاء تلك المؤسّسات مُستقبلاً، بعدما نفّذت مهامها بكلّ حرفية، في مسارات أستانة وسوتشي واللجنة الدستورية، فساهمت هذه المسارات في منح النظام وقتاً أطول، وقدّمت له كلّ الذرائع لعدم تقديمه أيّة تنازلات للشعب السوري، من خلال توفير مساحات للمناورة مع الأعداء والحلفاء، وبدا هذا السلوك إلى جانب التغييرات التي طرأت على أولويات الدول الداعمة للمعارضة السورية ذريعة جاهزة للانقلاب على "هيئة التفاوض" في مؤتمر الرياض 2 عام 2017، إذ أُخرِج منها "صقور" المُعارَضة، واستبدل بهم شخصيات مُرتهنة للخارج، إلى جانب إدخال منصّتي موسكو والقاهرة، ومنذ ذلك التاريخ وحتّى اللحظة لم يذكر أيّ إنجاز لهذه الهيئة، ومع مجيء بدر جاموس إليها (2022) بقيت مُعطّلة بالكامل، ولم تعقد أيّ جولة لتطبيق المهمّة الموكلة إليها في تطبيق القرار 2254، من هنا جاء النقد الكبير من السوريين لتلك الهيئة، بعد آخر خطوة لبدر جاموس، مُبرّراً ذلك بالحفاظ على علاقات الهيئة مع الدول، وبالتعرّف إليها، وبتطبيق البرامج والخطط التي لم تنتهِ خلال فترة ولايته السابقة، ومفاد ذلك أنّ جاموس يحتاج خمس سنوات قادمة لإنجاز ما لم يُنجزه سابقاً، متناسياً أنّ مهمّة "هيئة التفاوض" هي الوصول السريع إلى تطبيق القرار 2254 وليس كسب سنوات إضافية في وقت ينتظر فيه السوريون إنهاء حالة العبث بدمائهم.
ما تنتهجه مُؤسّسات المُعارَضة السورية الرسمية أخيراً هو الأخطر على القضية السورية منذ تاريخ تأسيس تلك المؤسسات
أهمية المنعطف الخطير لهيئة التفاوض من أنّه جاء في وقت يشهد فيه الملف السوري تطورات مصيرية، كإحياء مسار التطبيع بين أنقرة ودمشق، وعودة التسخين في مناطق المعارضة في الشمال السوري، وإحياء التفاهمات بين تركيا وروسيا في تطبيق مذكرة سوتشي لعام 2020 الخاصّة بمنطقة خفض التصعيد في الشمال السوري، والحديث عن فتح الطرق الدولية، وتصاعد الحديث عن عودة اللاجئين من تركيا ضمن برامج العودة الطوعية، الذي سبّب توتّر العلاقات مع المكونات السورية كلّها في الشمال السوري. كما تأتي أهمّيته من دخول اعتصام الكرامة في ريف حلب يومه الـ20، وتفعيل ما أعلنته قيادة الاعتصام تشكيل القيادة العليا للثورة، جسماً بديلاً من الحكومة المُؤقّتة و"الائتلاف" اللذين أُغلقت مكاتبهما في ريف حلب. ويبدو أنّ هذا الاعتصام بدأ يزعج مؤسّسات المُعارَضة الرسمية بعدّه سحباً للبساط من تحتهم أمام المجتمع الدولي، ما دفع فريق "جي فور" داخل الائتلاف إلى إصدار بيانات كثيرة، وضّح الفريق من خلالها موقفه من مسار التطبيع بين أنقرة ودمشق، مشدّداً على تمسّكه بثوابت الثورة السورية، وعلى الوقوف في جانب مطالب الشعب، في إشارة واضحة إلى استعطاف الشارع السوري في كلام معسول مُكرَّر لم يعد ينطلي على السوريين الذين باتوا يعرفون كلّ شاردة وواردة عن أعمال ذلك الفريق وتوجهاته وأهدافه.
مما سبق كلّه، وبعد توضيح هدف بدر جاموس، ومن يقف وراءه في تعديل النظام الداخلي، وخطورة المهمّة التي سينفّذها مستقبلاً، بات لزاماً على السوريين الأحرار كلّهم إسقاط هذه الهيئة بالكامل، مع كامل أعضائها، ومحاربتها، والوقوف في وجهها بكلّ السبل والوسائل قبل فوات الأوان، والعمل سريعاً على ملء المشهد السياسي عبر تشكيل جسم لقيادة الثورة واسترداد القرار الوطني الثوري السوري، وإنهاء أيّ وصاية عليهم من الخارج، وحشد الطاقات المدنية والثورية كلّها في جسم تنظيمي واحد استعداداً لخوض معركة الاستحقاقات المقبلة المصيرية.