لماذا معارك القدس وحدها رابحة؟
بين فجر يوم الجمعة الفائت وغروبه، ربحت مدينة القدس الجولة الأولى من معركتها ضد ذبح قرابين الفصح اليهودي في باحة المسجد الأقصى، وأفشلت محاولة الاحتلال، الذي هاجم صباحاً وانثنى على نفسه، مكرهاً، بسرعة قياسية، حيث ملأ الشباب المقدسي، بعد صلاة العشاء، مدرّجات باب العامود احتفالاً بهذه المناسبة، فبدت المدينة القريبة جداً من باب السماء كمن وطّد نفسه على مواصلة المقاومة، وعقد معها عهداً على الفوز في كل مواجهة مقبلة، تماماً على نحو ما كان عليه الحال في ختام كل المعارك السابقة حول حاضر (ومستقبل) هذه الحاضرة العربية الباذخة بقداستها وبرمزيتها ومركزيتها الشديدة في وجدان مئات الملايين في محيطها البشري الواسع.
على مدى خمس سنوات على الأقل، مضت مثقلةً بالتضحيات الثمينة، وفي غمار سلسلة من المواجهات المتفرّقة، جرت في عموم الأراضي المحتلة، تفرّدت المعارك التي وقعت على أديم القدس ودارت في مدارها، بتحقيق ربح سياسي عزّ نظيره في أي أرض فلسطينية أخرى، خطّه المقدسيون بماء الذهب في سجل الكفاح الوطني المديد، لشعب يقاتل بلحمه الحي وحيداً، وبدمه الحارّ، قوة استعمارية مدجّجة بالأحقاد والأطماع، باطشة بالحديد والنار، ويمضي على طريق الجلجلة عاماً بعد عام، من دون أن تنكسر فيه روح، مثل طائر الفينيق، الذي يجدّد انبعاثه مرة إثر مرة من تحت الرماد.
تستحق هذه المفارقة الكفاحية، التي تخصّ المدينة المقدسة دون غيرها من بقاع فلسطين، إمعان النظر، واستنباط الدروس والعبر، ناهيك عن طرح الأسئلة المسكوت عنها، وأهمها السؤال عمّا يجعل المعركة في القدس رابحة ربحاً صافياً، فيما المعارك الأخرى المكلفة، سيما في غزّة وجنين وغيرهما، متراوحةً بين منجز عسكري محدود باهظ الثمن ومحصول سياسي قليل المردود، وأحياناً بلا أي محصول، حتى لا نقول بنتائج مؤلمة ألماً فادحاً للفلسطينيين كافة؟ هل الأمر يعود إلى ميزة دينية أم عدالة قضية، أم مكانة فريدة، أم غير ذلك من العوامل والاعتبارات غير المرئية؟
بنظرة سريعة إلى الوراء، نجد أن سائر المعارك في القدس وحولها، طوال المرحلة العصيبة التي لم تنته بعد، لم تُسجّل مدينة الصلاة في الرصيد السياسي الفلسطيني أي خسارةٍ تُذكر، بل كانت تُضيف مكاسب جزئية متراكمة، بدءا مما عُرفت، في حينه، باسم معركة البوابات الإلكترونية على مداخل "الأقصى" عام 2017 الى معارك الشيخ جرّاح وسلوان وباب العامود، وقبلها معركة قرية الخان الأحمر البدوية شرقي المدينة، حيث كانت المقاومة الشعبية تتجلّى بأفضل صورها في كل محطّة نضالية، بالحضور الشعبي الكثيف، بما في ذلك مؤازرات عرب 48 ، فضلاً عن المتضامنين الأجانب، وبعض اليهود التقدّميين، في ظل مواكبة كثيفة لوسائل الإعلام العربية والعالمية.
ومع أن كل ما سبقت الإشارة إليه كان حاضراً بهذا القدر أو ذاك، في خلفية كل راغب في تحرّي أسباب تفوّق القدس على غيرها من مطارح الكفاح ضد الاحتلال، وفهم دينامية الروافع المقدسية المؤهلة لتحقيق ربح سياسي لا مراء فيه، على نحو متواصل، إلا أن هناك عنصراً لا يقلّ أهمية عن كل ما ورد آنفا في سبب كسب المعركة داخل أسوار البلدة القديمة وخارجها، وهو إدارة المواجهة بحكمةٍ لا تنقصها رباطة الجأش، وفوق ذلك حُسن الإدارة السياسية، والضغوط الديبلوماسية، ناهيك عن اعتدال الخطاب القابل للترجمة بكل اللغات، وعن مضاء الواقعية الثورية، اللتيْن ظلت تؤديهما على خير ما يُرام مؤسسةٌ قياديةٌ معترف بها، ومقبولةٌ من الرأي العام الدولي الذي يُشكّل قوة دعم وإسناد لا غنى عنها في كل معركة.
بكلام آخر، غابت عن فضاء معارك القدس الرابحة سياسة الفم الكبير، الفائض بالعنتريات، بجعجعة الوعيد بالويل والثبور وعظائم الأمور، بالدخول إلى ساحة الملعب الذي يشتهيه الاحتلال، بإطلاق الصواريخ لنصرة الأقصى، للذود عن المقدّسات، من دون التفاتٍ إلى ما يراه المجتمع الدولي مسّاً بالمدنيين، الأمر الذي كان يكسر صورة المقاومة المشروعة ضد الاحتلال، ويحجُب مطلب الحرية والاستقلال، على نحو ما حصل في خضم معركة الشيح جرّاح، حين قوّضت الإطلاقات الصاروخية هبّة شعبية كانت تعد بالكثير، عندما استعجل المتعجّلون، كالعادة، قطف الثمار قبل نضوجها، ليس من الاحتلال، وإنما من المؤسّسة الفلسطينية، التي كانت تمرّ بأصعب أحوالها، عقب إرجاء الانتخابات التشريعية، وذلك كله بوهم أن معركة "سيف القدس" قد أنجزت استحقاق أخذ منظمة التحرير، وحسمت معركة صراع على السلطة.