لماذا نحبّ بوتيرو؟
لأن شخوصه ببساطة تشبهنا. إنها مرايانا وعوالمنا وأحلامنا وذكرياتنا. هي ليست جميلة بمعايير الجمال السائدة والمعروفة، لكنها ليست قبيحة البتة، ببشراتها المضيئة ووضعياتها المرحة وألفة وجوهها. نساء الفنان الكولومبي العالميّ فرناندو بوتيرو (1932)، ورجالُه ليسوا حتى بدناء، أحجامهم الضخمة وانتفاخاتهم تبدو هوائية، خفيفة، تشعرك أنهم على قاب قوسين من الارتفاع عن الأرض. ضخامتهم توحي بالثقة، بقوّة الحضور، بأنهم يشغلون المكان لكن دونما ثقل، بالشبع اللذيذ، بالحب، بالفرح والرقص والموسيقى.
منذ عام 1950، أنتج بوتيرو ثلاثة آلاف لوحة وثلاثمائة منحوتة موجودة في أهم المتاحف العالمية وساحات المدن الكبرى، وهي أعمال يشعر واحدُنا، وإن لم يحظَ بفرصة مشاهدة إلا القليل منها، أنه ما أن يراها، حتى يتعرّف مباشرة إليها. يستطيع من التقى عملا من أعمال بوتيرو ذات يوم، أن يتخيّله دوما، وأن يشعر أن الشخوص الماثلة فيه أو الموضوع الذي يعالجه، لن تبارح عينه، لأن ثمّة ألفة تربطه بفنّه. "بوتيرو هو رسّام تقاليدنا وعيوبنا، ورسّام فضائلنا"، هكذا نعاه رئيس بلاده إثر إعلان خبر وفاة الفنان الكولومبي الأشهر في العالم، منذ أيام. أما هو، فقد صرّح في عيده ميلاده الثمانين عام 2012: أفكّر غالبا في الموت ويحزنني أن أغادر هذا العالم، وأن أتوقف عن الرسم لأنني أستمتع كثيرا بعملي"...
المتعة هذه تتسرّب بشكل تلقائي إلى مُشاهِد أعماله الفنية، تغلّفه كما لو كانت رائحة مألوفة تملأ الخياشيم والمسام. لا يهمّ من أية بقعة جغرافية جئنا، أو إلى أية ثقافة انتمينا، لا يهمّ إن كنّا نجهل كل شيء عن تاريخ الفن التشكيلي، أو كنّا أميين، فمنحوتة بوتيرو كما لوحته، ستنادي العابرَ أن يتوقّف، وستخاطب صبي الشارع، والحانوتي، والسيدة التي خرجت لشراء الخضار، والعامل المتوجّه إلى عمله، وأستاذ المدرسة، والراقص، ... إلخ. كل هؤلاء موجودون في لوحاته، أشبه بأعمامنا وخالاتنا وجيراننا وحفلاتنا الصغيرة وأحلامنا وعُرينا. ثمّة في ألوانه البهيجة طعم السكاكر، وأحلام الطفولة، ونغمات الآلات الموسيقية، ورحيق الأزهار مطلع الربيع. بوتيرو هو ساحر اللون والحجم والموضوعات التي لا تخلو من حزنٍ شفيفٍ عندما يصوّر أشخاصا يبدون قادمين من أزمنة أخرى. حتى أعتى المجرمين، يتحوّلون تحت ريشته إلى لحظة درامية، كما هو إسكوبار الذي رسمه لحظة سقوطه، أو الموناليزا التي تدوّرت وانتفخت وباتت "دنيوية" إذا صحّ التعبير، بعد أن غادرت ابتسامتَها الغامضة وجمالَ وجهها النائي البعيد.
هذا ولم يكن بوتيرو منقطعا عن السياسة أو عن زمنه وقضايا عصره، فقد رسم الحرب والكوارث الطبيعية، وأعلن نفسه فنانا ملتزما "يرسم "لوحاتٍ من أجل الحرية وضد الظلم"، هو الذي عرفت بلاده اضطراباتٍ عنيفة ونزاعا مسلّحا استمرّ أكثر من نصف قرن. في ما عدا ذلك، في خريف عام 2004، رسم بوتيرو لوحات كبيرة وصغيرة لأسرى سجن أبو غريب العراقيين. كان قد رأى الصور في صحيفة في أثناء وجوده في طائرة، فطلب من المضيفة أن تأتيه بأوراق وأقلام على وجه السرعة. لقد هاله ما رآه، وإن صرّح أنّ العنف ليس غريبا عليه، "لكن العنف في كولومبيا هو دائما تقريبا نتيجة الجهل، نقص التعليم وغياب العدالة الاجتماعية. من الولايات المتحدة، كنت أتوقع شيئا آخر غير هذه الممارسات القروسطية". تفيض لوحات بوتيرو تلك بالخوف والذل والقسوة، والوضعيات التي تصوّر رجالا نصف عراة، يتم التنكيل بهم على أيدي جلادين يغيبون عن اللوحة حيث تحضر الضحية وحدها، سوف تخلّد ولا ريب لحظاتِ العار هذه، وسوف تبقيها أبدا في الذاكرة، منقذة إياها من غياهب النسيان.