لماذا يسرق النظام السوري أموال المعارضين؟
يظهر ماهر الأسد أخيراً في فيديو رديء الجودة، وهو في حمص، وحوله ضباطٌ وجنود. هو الرجل الثاني في النظام السوري، وحليف إيران الأول في أعلى هرم السلطة، ظهرَ من دون أن يتكلم كما اعتاد الظهور، ربما ليدرأ عن نفسه تهمة الموت بغارةٍ إسرائيليةٍ على مزرعةٍ له في ريف دمشق، والتي لاحقت غيابه طوال عام.... ولكن ظهوره ذاك جاء لصيقاً أو ربما متمّماً لقانونٍ صَادَقَ عليه مجلس الشعب السوري بأغلبية أعضائه، وهو أشبه بوليمةٍ تتقاسم فيها ضباعٌ جائعةٌ الجثّةَ، بحيث صار بإمكان النظام السوري إدارة (واستثمار) الأموال المنقولة وغير المنقولة التي صودرت بموجب حكم قضائي مُبرم. كما خوّل هذا القانون رئيس وزراء النظام السوري نقلَ ملكية تلك الأموال إلى أيّ جهةٍ عامةٍ يشاء، والذي يزيد من ضراوة هذا التشريع ذي الطابع الاستفزازي امتلاكه أثراً رجعياً، أي أنه يلاحق بمفاعيله كل الأموال التي جرى السطو عليها قضائياً قبل صدوره، وبالأخص الأموال المنقولة وغير المنقولة للذين قادهم سوء طالعهم إلى المثول أمام محكمة الإرهاب، وليسوا جميعهم من المعارضين لنظام بشّار الأسد، إذ يكفي أن تُوّجه تهمةُ عدم دعم النظام إلى أحدهم حتى تداهمهُ إجراءات تلك المحكمة، وتُصادر أمواله وممتلكاته، ذلك أنّ تلك المحكمة بغيضةَ الصيت، وبما تستحوذ عليه من سلطةٍ استثنائيةٍ منحها إيّاها النظام القائم، صارت نصلاً يحزّ رؤوس الجميع، ويبقيهم خائفين من سلطانها عليهم.
صار لدينا إذاً قانونٌ فاجر باستطاعته أن يتشاجر مع أموال من يشاء من السوريين، ثمّ يقبض عليها متى يشاء أيضاً، ويصادرها من خلال سلطةٍ متعجرفةٍ لطالما استباحت المجتمع، ونبذته كقيمة ضئيلة الدلالة في معادلة السياسة الكلّية، ولعلّ هذا القانون أيضاً يماثل، في توقيت صدوره، شيكاً مصرفيّاً آنَ موعد صرفه، فهو يعني أنّ الدمار الممنهج للمناطق التي ثارت على النظام منذ عام 2011 صار بالإمكان إعادة إيقاظها، عن طريق استثمارها، وتخليصها من الركام الذي تجسّدت فيه، فسكّانها الحقيقيون إما قُتلوا، أو تهجّروا، والأمر هنا سيّان، وهذا يحاكي نموذج غزّة المدمّرة، ويحاكي نموذج سكّانها اللائبين من دون وجهة آمنة، وكأنها حكايةٌ واحدة لا تقتصد في ترويج معناها العام، وقد يجري زفاف الفكرة نفسها من سورية إلى غزّة، تشريعٌ يسرق الأموال المنقولة وغير المنقولة، ابتدعه حاكم سورية، وربما يقلّده من يحكم إسرائيل، ويعيد تجديد ركام القطاع الفلسطيني المصاب بتخمةٍ من الانهيار، بهيئةٍ مختلفةٍ عمّا كان عليه، وربما ستنتقل ملكيّته إلى غير مالكيه الحقيقيين، كما تنتقل الآن ملكياتُ معارضين سوريين، أو غير متعاونين مع نظام بشّار الأسد إلى الإيرانيين أو إلى حفنةٍ ضيقة من لصوص مقصورةِ الدرجة الأولى في حكم سورية.
بات بمقدور عصابةٍ حاكمة أن تُغرِقَ المجتمع بكل هذا الخوف، مثلما تخطّط إسرائيل بالفعل لأن تُغرِقَ أنفاق قطاع غزّة بمياه البحر
مثل هذا السلوك المتهتّك براغماتياً داخل منحنيات التشريع والسياسة يجد موطناً مقبولاً له لدى النظام السوري، كما وإنّ ظهوره، في الآونة الأخيرة، يحمل دلالاتٍ لا يمكن المجازفة بفهم أنها تحمل تبجّحَ المصادفة وحدها، إذ ترافق تشريع السطو على أموال المعارضين أو غير الداعمين للنظام الحاكم، وغيابَ بشّار الأسد عن الاحتكاك بالشأن العام السوري، وكأنه عاد ليُخبّئ نفسه في دهليز غيبته المفضّل.
في المقابل، اتسعت المساحة السياسية التي بات يشغلها رئيس وزراء النظام، حسين عرنوس، فبعد تمثيله الوفد السوري في قمّة التغيّر المناخي في دبي أواخر الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، وجدناه أخيراً يزور طهران، وعرنوس هذا يمثّل أهمَّ أداةٍ تنفيذية لإيران داخل منظومة الأسد الحاكمة، فهو المشرف مباشرةً على تنفيذ عقود استثماراتها لقطاعات الاقتصاد الاستراتيجية التي استولت عليها في السنوات الأخيرة، ومنحه القانون المعلن أخيراً ميزاتٍ استثنائية في إدارة ملكية الأموال المصادَرة واستثمارها ونقلها إلى الجهات التي يشاء. وتبدو هذه الأدوار الجديدة مجتمعةً لحسين عرنوس مستهجنةً للغاية، فمنصب رئيس مجلس الوزراء في النظام السوري لا يعدو أن يكون أكثرَ من موظف تنفيذي، فرئيس السلطة التنفيذية (مجلس الوزراء) في سورية فعلياً ودستوريّاً هو نفسه رئيس الجمهورية، وجرت العادة أنّ يمثل وزيرُ خارجية النظام السوري بلاده لدى حضور المناسبات والدعوات والمؤتمرات خارج القطر، أو إجراء الزيارات الخارجية، لا رئيس مجلس الوزراء كما يحدُث أخيراً، وإنْ أضفنا إلى ذلك حسابياً الظهورَ المقتضب لماهر الأسد في حمص بما يمثّله من ولاءٍ مفرطٍ للإيرانيين، نجد إيران وكأنها تعلن للملأ، وبلا مواربة دبلوماسية، أنها باتت تُطبقُ الخناق على سورية قوّة احتلال وهيمنة خارجية، وهذا أولمَ منفعةً غير مباشرة لبشّار الأسد، إذ أتاح له أن يصيح من وراء نرجسيّته المتقرّحة والعمياء بأن إيران صارت على حدود تلك الدول التي تجاهلته، وأذلّته على نحوٍ استرعى انتباه الجميع لدى حضوره أعمال القمّة العربية الإسلامية الاستثنائية في الرياض يوم 11 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
ترافق تشريع السطو على أموال المعارضين أو غير الداعمين للنظام الحاكم وغيابَ بشار الأسد عن الاحتكاك بالشأن العام السوري
وإن قصدنا الأرقام الرسمية حين تهرب من ضجيجِ قمعِ النظام السوري وتسلّطه، سنجد كيف أنّ غرفة تجارة دمشق قد صرّحت في الآونة الأخيرة عن خروج نحو مئة ألف تاجر عن العمل في السوق التجارية. أما توقفهم عن مزاولة العمل التجاري فكان بسبب غياب دعم حكومة النظام السوري، وإرهاقها لهم، الأمر الذي أثار بموازاة ذلك حفنةَ تكهّناتٍ جديدة، أولها الخشيةُ من أن يعتبرهم القانون الجديد قد فقدوا خصالهم الحميدة في دعم النظام، وبالتالي يصير جائزاً أن يطبّقَ عليهم الحدُّ الجديد، وهو رجمُ أموالهم بشقيّها المنقول وغير المنقول ثم مصادرتها.
إذاً، هكذا وببساطة بات بمقدور عصابةٍ حاكمة أن تُغرِقَ المجتمع بكل هذا الخوف، مثلما تخطّط إسرائيل بالفعل لأن تُغرِقَ أنفاق قطاع غزّة بمياه البحر. وفي الحالتين، يمثّل فعلُ الإغراق انتقاماً غير أخلاقي، تديره عن كثب سلطتان مجرمتان بكل المقاييس والدلالات.
وإن كانت إسرائيل تستمرئ قصف أهدافٍ تابعة للنظام السوري وحليفه الإيراني في عاصمة النظام ومحيطها متى تشاء، وكأنها تُكيل القنابلَ إلى غزّة، فإن بشّار الأسد يستمرئ أيضاً أنْ يردَّ بقصف مناطقَ سوريّة كما فعل أخيراً حين قصفت قواته، المرابطة في مدينة سراقب، مدينتي إدلب وسرمين بالصواريخ، الأمر الذي أدّى إلى استشهاد ستة مدنيين، وإصابة 33 مدنيّاً آخر بجروح، وبذلك يساهم بشّار الأسد ببراعةٍ قلَّ نظيرها في زيادة رصيده من الإفلاس، سواء كزعيم عصابة تبتكر بلا تردد تشريعاتٍ رخيصة لسرقة أموال من يعارض سلطتها، ومن لا يقف معها داعماً، أو كرئيس نظامٍ بات منبوذاً داخلياً وإقليمياً ودولياً، فأي عمليات تجميلٍ تلك التي سيلجأ إليها بشّار الأسد في المرحلة المقبلة، لإصلاح تضاريس شكله المتصدّع، مع أنّه يعلم جيداً بأن هذا الأمر بات مستحيلاً؟