لماذا يكلِّف حزب الله رجال الدولة بملف الثروة النفطية؟
بعيد اكتشاف الثروة النفطية في باطن بحرنا اللبناني، شرق المتوسط، بدأت المفاوضات حول الحدود البحرية للدول ذات الشواطئ المشتركة: لبنان، إسرائيل، مصر، قبرص، وربما أيضا سورية. حصل ذلك عام 2008، أي منذ 14 عاماً. ما الذي جرى خلال كل تلك السنوات؟
كنّا خارجين لتوّنا من حرب 2006، العبثية بالكامل، التي بادر إليها حزب الله بخطفه جنديين، وبتنْظيره لها، إنه إنما يخوض "حرباً استباقية". انتهت هذه الحرب وبخسارات هائلة، اعتبرت وقتها لا شيء أمام حجم ذاك الانتصار "الاستراتيجي، التاريخي"، "الإلهي" الذي حقّقه الحزب. تلتْها بعد سنتين حرب 7 أيار/ مايو ضد بيروت، وأهلها، بالحرق والقتل والترهيب، وقد وصفها مراراً حسن نصر الله وصحبه بـ"اليوم المجيد".
ومنذ وقتها قال الكريم "خُذْ": يتحول حزب الله إلى قوة إقليمية تحارب بمليشياتها مع إيران لإنقاذ عرش بشار الأسد في سورية، وبترسانتها الأخرى في اليمن. يتمكّن الحزب من تحطيم كيان الدولة اللبنانية بتغطيته على الإجرام والفساد، بالسْلْبطة على قرارها، وباستباحة حدودها البرّية من أجل حرية التهريب على أنواعه، وبالتورّط في عشرات الاغتيالات بحق شخصياتٍ مناهضة له، رسمية وغير رسمية، من رفيق الحريري إلى لقمان سليم، بمنع التحقيق في انفجار مرفأ بيروت.. وكل هذا غيض من فيض.
أفرغ حزب الله الدولة اللبنانية من معناها، من هياكلها وقوانينها، ومن وظيفتها، لصالح دويلته النافذة. وها هو الآن يحمّلها المسؤولية التي كان يأخذها تقليدياً على عاتقه الخاص
حسناً. الآن إسرائيل أعلنت انها باشرت باستخراج النفط من بحرنا، فحَلّت المفاجأة الكبرى .. ومعها فوضى على أنواعها، وكأن الجميع بوغتَ، فلا معلومات دقيقة متوفرة. اللهم إلا الدراسة التي كتبها العميد المتقاعد بسام ياسين، والقائمة على أبحاث تقول إن حقوق لبنان أعلى مما تقوله الأطراف القوية في المفاوضات. والباقي مغْمغة وطنية، وتقاذف الملفّ بين الرئيسين نبيه برّي وميشال عون، مثل الكرة الخفيفة. وتصريحات نارية لحسن نصر الله: "إذا أراد العدو الإسرائيلي أن يمنعنا من استخراج الثروة النفطية والغازية مقابل جنوب لبنان، فنحن أيضاً قادرون أن نمنعه". وخبراء نفط على الشاشة، غالبيتهم تتكلّم بعبارات مبهمة، تخرج منها أكثر تشوشاً مما قبلها. وأشياء تبدأ أنتَ تفهم منها أن الفرق بين الحقوق التي يريد أن يتبنّاها "رجال الدولة"، أي خط 23، وذاك الذي يؤكد الخبير العسكري بسام ياسين هو الخط 29. وارتفاع الأصوات الوطنية المؤكِّدة على خط 29، وتظاهرة لنواب التغيير في الناقورة، من أجل هذه الحقوق القائلة لهذا الخط.
وتتجه الأنظار بطبيعة الحال نحو حزب الله، صاحب القرار المنفرد بالحرب والسلم. يسبقه جمهوره بحماسته الأوتوماتيكية لكل حربٍ يخوضها حزبه، فيرفع يافطاتٍ تنادي حسن نصر الله: "سنخوض البحر معكَ". غامزا في قناة الحرب التي خاضها الحزب عام 2006، وقصف وقتها سفينة إسرائيلية كانت مرابطة في المياه الإقليمية اللبنانية. لكن الحزب خالف جمهوره هذه المرّة، وإن سيراضيه لاحقاً.. جاء التمهيد على لسان مساعدي نصر الله. رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله هاشم صفي الدين: "المطلوب من الدولة بشكل رسمي وواضح أن تعلن الحدود وما هي المناطق المتنازَع عليها، ليجتمع عندها اللبنانيون بمقاومتهم وجيشهم، ويأخذوا حقوقهم من قلب البحر وعمقه"، فيما الشيخ نعيم قاسم، نائب حسن نصر الله، يستبعد "احتمالات الحرب"، ويشدّد على أن حزبه مستعد لاتخاذ إجراءاتٍ "بما في ذلك القوة"، ضد عمليات التنقيب الإسرائيلية عن الغاز، "بمجرّد أن تعلن الحكومة اللبنانية انتهاك إسرائيل حدود لبنان البحرية". وخُتم التمهيد بخطاب لنصر الله، كرّس فيه تحميل الدولة مهمة اتخاذ القرار في هذه المعركة، مسْتَسْخفاً الجدل حول الخطّين 23 و29، مستنداً إلى شعار هو بمثابة الوطنية المطلوبة لكل طامع بالسلطة، أي "وحدة الجيش والمقاومة والشعب"، واضعاً المهمة في خانة الواجبات الوطنية المقدّسة "توازي مهمة تحرير الأرض".
حزب الله في معضلةٍ لا سبيل إلى علاجها إلا برمي موضوع النفط والغاز في المياه الإقليمية على كاهل رجال "الدولة" الذين أصبحوا كذلك بفضله
ضعْ جانباً أن "الجيش" المذكور في الشعار أعلاه لم يُدْع إلى اتخاذ الموقف، أسوة برؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان. مع أن الجيش كـ"قوة"، معنيٌّ مباشرة بالملف. ودوافع هذا الاستبعاد هي ربما حرمان الجيش من أي دور حيوي، قد يرشّح قائده لرئاسة الجمهورية. أو ربما أيضاً بسبب توتر العلاقة بين الجيش والحزب، بعد تدخلات الأخير في أعمال "التنظيف" الأمني ضد تجار المخدّرات في منطقة البقاع، وقبله، ضد المنْفلتين بسلاحهم خطفاً وديّة وقتلا وتهريباً في المنطقة عينها.
وبالعودة الى الموضوع: إذن، حزب الله، بعدما أهلكَ الدولة اللبنانية، وأخضع رجالاتها، باتفاقات وصفقات، أو بالتهديد أو بالأمر الواقع، أو بالإغراء في مناصب الدولة العليا .. يسحب من هنا، ويعيِّن هناك، إلى ما هنالك من أعمال، لم تفضِ إلا لإفراغ الدولة من معناها، من هياكلها وقوانينها، ومن وظيفتها، لصالح دويلته النافذة .. ها هو الآن يحمّلها المسؤولية التي كان يأخذها تقليدياً على عاتقه الخاص، لا بالتنسيق مع الدولة اللبنانية، إنما بقيادة الدولة الإيرانية وبالتنسيق معها. وهذا الموقف يجب ألا يدعو إلى الاستهجان، فالحقيقة أن حزب الله واقع في معضلةٍ لا سبيل إلى علاجها إلا برمي الموضوع بأسره على كاهل رجال "الدولة" الذين لم يصبحوا كذلك إلا بفضله. لماذا؟ لأن الحزب لا يستطيع أن يقرّر الحرب اليوم على إسرائيل، كما قرّرها عام 2006، بمعزل عن الدولة. أو لأن الحسابات الإقليمية لإيران لم تأخذ هذا المنحى حتى هذه اللحظة، كما فعلت عام 2006. والأهم أنه إذا فعل، سوف تقوم عليه القيامة، من بيئته ومن غير بيئته. وسوف يضيف إلى الإنهيار الحاصل في لبنان حالةً تشبه، إلى حدّ بعيد، تلك التي أنهى بها زياد الرحباني مسرحيته "بخصوص الكرامة والشعب العنيد": رجال ونساء من العصر الحجري، تائهون في البرية، يلبسون جلد الحيوان، شعرهم منبوش وهيئتهم مزرية، يبحثون عن مأوى، أو طعام يقطفونه من الأشجار، أو صيد الحيوانات البرية .. وذلك بعدما غالوا في عيوبهم السياسية. .. وبيئة حزب الله التي تكابر، وتقول هيّا إلى الحرب، سوف تكون من أول الهاربين من القتال، لو خاضها الحزب. ساعتها، لن يجد هذا الأخير من يؤازره من اللبنانيين أو العرب، فرصيد حرب 2006 هُدر في مذبح إعلاء قائد الحزب إلى مرتبة المرشد الأعلى للجمهورية اللبنانية.
بيئة حزب الله التي تكابر، وتقول هيّا إلى الحرب، سوف تكون من أول الهاربين من القتال، لو خاضها الحزب
أما إذا لم يقرّر الحزب خوض هذه الحرب، وتلطّى خلف رجالاته من "رجال الدولة"، الذين أوعز إليهم باتخاذ مواقف "براغماتية"، فيكون الحزب قد حرَم نفسه من شرعية سلاحه، بواحدةٍ من أقوى الحجج المضادّة له، فالامتناع عن القتال من أجل الثروة الوطنية، والاستمرار بالقتال من أجل إيران في سورية سيكون فاضحاً لمن يريد أن يرى. ولن تكون "انتفاضة" ضده، لمجرّد أنه فقد واحدة من ذرائعه. لكنها حجرة ثقيلة، ستعمّق من رسوها في البحر اللبناني مدى طويلا. خصوصاً إذا حصل، كما هو مخطَّط له، أن يكون النفط قد استخرج بعد ثلاثة أشهر. وسيكون الحزب، في هذه الحالة، على مرمى من المزايدات الوطنية التي بدأ يتحسّسها، بعدما ربى أجيالاً عليها، على التخوين والتكفير.
ثمة احتمال آخر: أن يكون حزب الله مهتماً بإرضاء جمهوره "الوفي"، وبتجميل صورته، فيرمي صاروخاً، غير دقيق، على الباخرة اليونانية صاحبة منصّة الاستخراج، ويكفي الله المؤمنين شر القتال. فيعلن أنه يقوم بذلك بناء على "قواعد الاشتباك" بينه وبين إسرائيل، فينتهي الموضوع، يوضع الملف في أحد الأدراج، ونعود نحن إلى أي رئيسٍ يأتي بعد عون، وأي رئيس حكومة بعد ميقاتي..؟