"لوكيربي" مجدّداً .. وهموم الليبيين
اعتقد الليبيون أن ملف حادثة لوكيربي (تفجير طائرة ركاب أميركية فوق بلدة لوكيربي في إسكتلندا في 1988 واتهام نظام معمر القذافي بتدبيره) قد طوي إلى الأبد، خصوصا بعد التعويضات السخية التي دفعت من أموالهم لعائلات الضحايا عن تلك الجريمة التي لا يعرفون حقيقتها، ولا يزال كثيرون منهم (كما حال أسر ضحايا عديدة) يشكّكون في صحة الرواية التي استند إليها القضاة في إدانة عبد الباسط المقرحي، الذي حُكم علية بالسجن المؤبد، قبل أن يطلق سراحه نتيجة حالته الصحية، ليرجع إلى طرابلس في أغسطس/ آب 2009، ويموت فيها (وهو يصرخ ببراءته) بعد سنتين من إطلاق سراحه. تأتي هذه الشكوك، على الرغم من معرفة الليبيين بتصرفات القذافي اللامسؤولة في تلك الفترة، سيما خلال العقد الثاني من حكمه، والذي اتجه فيه إلى الساحة الدولية ليمارس نشاطه فيها، فدعم جماعات متمرّدة في أماكن عديدة، في مقدمتها أوروبا، حيث قدّم دعما للجيش الجمهوري الأيرلندي والألوية الحمراء في إيطاليا ومجموعة بادر- ماينهوف الألمانية، بالإضافة إلى اتهام عاملين في سفارته في لندن بإطلاق النار على شرطية بريطانية، ما أدى إلى مصرعها في 1984، ليُتهم بعدها بتفجير ملهى ليلي في ألمانيا الغربية، يرتاده عسكريون أميركيون عام 1986، وهو التفجير الذي برّر للرئيس الأميركي، رونالد ريغان، قصفا جويا أميركيا أمر به، على أهداف ليبية في طرابلس وبنغازي في العام نفسه، نجا منها القذافي، وأدت إلى مقتل ليبيين أبرياء (66 عسكريا و15 مدنيا)، إلا أن اتهامه بتفجير الطائرة الأميركية فوق لوكيربي الإسكتلندي كانت حادثة التغيير التدريجي في السياسة الراديكالية التي كان ينتهجها.
أُطلق سراح عبد الباسط المقرحي نتيجة حالته الصحية، وبعد سنتين مات في طرابلس وهو يصرخ ببراءته
وعلى الرغم من ماضي القذافي المليء بمثل هذه المغامرات، إلا أن هذا لم يكن مبرّرا لتصديق الرواية الأميركية البريطانية التي استندت إلى قرائن وأدلة أثارت (ولا تزال) جدلا كثيرا، حيث وصفها قانونيون كثيرون بالمُضحكة، ولا ترتقي حتى إلى مستوى الاتهام وليس الإدانة، فقد صرحت عضو فريق الدفاع عن المقرحي، كلير ميتشل: "تَعَرّف شاهد على المقراحي التي كانت نقطة حاسمة في إدانته، لا قيمة لها، لأنه تم بعد أن رأى الشاهد صورة المتهم في مقال صحافي تمّت فيه الإشارة إلى أنه قد يكون منفذ التفجير". وأضافت إن "الأدلة التي قدّمها الادّعاء في المحاكمة الأصلية كانت معيبة، إلى درجة أن القضية المرفوعة ضد المقرحي لم تثبت أي دليل ضده، وإنه لا يمكن لأي هيئة محلفين حكيمة أن تتوصل إلى أن المقرحي مذنب، بينما بقيت تواريخ زيارته مالطا موضع شك".
دفعت ملياراتٌ من الخزينة الليبية، من أجل فك الحصار الذي فرض على ليبيا، والذي تفنن العرب قبل العجم في تطبيقه، بعد أن اعترفت السلطات الليبية بمسؤوليتها عن الحادثة، لتنهي نفيا رسمياً استمر أكثر من 15 عاما، ذلك الاعتراف الذي وصفه الكاتب والمتخصص في شؤون الاستخبارات، إريش شميت - أنبوم، بأنه اعتراف تكتيكي ضمن للقذافي العودة إلى الساحة الدولية، مضيفا إن مجريات تلك المحاكمة أظهرت، بوضوح، إن هناك صفقة عقدت وراء الكواليس، لا تخدم الحقيقة، وإنما تسمح للطرفين بحفظ ماء وجههما السياسي، حسب تعبيره .
بعد 32 سنة من ارتكاب الجريمة، و13 سنة من دفع التعويضات، يبدو أن تلك المليارات والاتفاقات قد أنهت فصلاً، ولم تُنه المسرحية بكاملها
بعد 32 سنة من ارتكاب الجريمة، و13 سنة من دفع التعويضات، يبدو أن تلك المليارات المدفوعة، والتنازلات المقدمة، والاتفاقات الموقعة، قد أنهت فصلاً، ولم تُنه المسرحية بكاملها، حيث أعيد فتح ملف القضية تزامنا مع الذكرى السنوية الـ32 للتفجير، فقد أعلنت وزارة العدل الأميركية توجيه الاتهام رسميا إلى ضابط المخابرات الليبي السابق، أبو عجيلة مسعود، والذي كان مساعدًا لمدير إدارة الاستخبارات العسكرية السابق، اللواء عبدالله السنوسي، متهمة إياه بتصنيع القنبلة التي أسقطت تلك الطائرة المنكوبة. ولافتٌ للنظر أن القضية المرفوعة ضد مسعود اعتمدت على عمل الصحافي، كين دورنشتاين، والذي كان يعمل من ضمن برنامج "فرونت لاين" لشبكة بي بي إس، عندما بدأ تحقيقه الشامل في التفجير، وكان شقيقه ديفيد من ضمن القتلى على متن الطائرة. حيث كشفت صحيفة ديلي ميل البريطانية أن الاتهامات الموجّهة إلى أبو عجيلة مسعود ظهرت خلال التحقيق الذي أجراه هذا الصحافي، والذي أنفق أكثر من 350 ألف دولار، في تعقب مسعود، وأنه هو من أعطى اسمه إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي في عام 2015، بعد رحلة تعقبٍ طويلة، زار فيها ليبيا ثلاث مرات بعد سقوط القذافي، حسب الصحيفة.
يطرح إعادة فتح هذا الملف أسئلة عديدة لا يملك الليبيون (على الأقل) إجابة شافية عليها، من أهمها: لماذا فتحت القضية في هذا التوقيت؟ وهل لحالة الضعف التي تمرّ بها ليبيا علاقة بذلك؟ وهل ستشجع إعادة هذه القضية لتتداول من جديد كلًّا من فرنسا وألمانيا وبريطانيا على إعادة فتح الملفات الخاصة بكل منها، وسبق وأن قُفلت، بعد أن وافقت حكومات هذه الدول على استلام التعويضات التي فرضتها؟ وهل الأموال الليبية المجمّدة، وخصوصا في كل من أميركا وبريطانيا، قد يسيل لعاب هذه الدول، ويشجّعها لابتزاز الحكومة الليبية الضعيفة؟
أعلنت وزارة العدل الأميركية توجيه الاتهام رسميا إلى ضابط المخابرات الليبي السابق، أبو عجيلة مسعود، بتصنيع القنبلة التي أسقطت الطائرة المنكوبة
أما السؤال الأكثر إلحاحا فيتعلق بردّ فعل المسؤولين الليبيين في الشرق والغرب، فهل لديهم القدرة والشجاعة والاستقلالية على مواجهة هذه الاتهامات الجديدة؟ وهل لديهم الإرادة على رفض تسليم المتهم الليبي (الجديد) إلى السلطات الأميركية، في حال ما طالبت الأخيرة بذلك؟ وهل يعوّل على من فشل في مجرّد توحيد المؤسسات الليبية، وعلى من وقف عاجزا عن وضع حلٍّ لتوغل المليشيات، والخروج من النفق المظلم الذي تعيشه البلاد، في التعامل بندّية مع هذه الدول الكبرى؟
أما المواطن الليبي الذي تزداد حالته تردّياً بسبب الحروب، تحت وطأة سوء الأوضاع المعيشية، وانعدام الصحة، وتفشّي الرشوة والفساد بجميع أشكاله، ناهيك عن إهانته، وتركه يلهث وراء احتياجاته الضرورية، لتجعله أوضاعه هذه غير مهتم بمثل هذه الأمور، فليس لديه فرق بين أن تُدفع المليارات لهذه الدول، من أجل تعويضاتٍ لقضيةٍ طُويت، أو أن يستفيد منها مسؤولٌ حكومي فاسد، أو مليشياوي نصّب نفسه وصياً عليهم، فذلكما سيان، فهو يدرك أنه لن يستفيد في الحالتين، وسيظل يعاني ضنك الحياة ومرّها، وأنه، في جميع الأحوال، سيظل يستجدي المسؤولين على أبواب المستشفيات، للحصول على دواءٍ لداءٍ مزمن، أو سرير متاح لمريضٍ أنهكه المرض، وسيظل حلمه الحصول على مرتبٍ من مصرفٍ لا يمعن في إذلاله. يعلم المواطن الليبي أنه ابُتلي بمسؤولين غير مسؤولين، يقتنصون الحصص والمراكز، ليضمنوا مستقبلهم ومستقبل عائلاتهم، لا همّ لهم سوى المناصب والمكاسب، من دون أيّ اكتراثٍ لمصير هذا الوطن، وأن الدفاع عنه وعن ممتلكاته ومواطنيه لا يشكل لهؤلاء المسؤولين أمرا يستحق التفكير، وردة فعلهم على إعادة فتح هذه القضية، واتهام أبو عجيلة مسعود، وغيرها من عمليات الابتزاز التي قد تتبعها، لن تكون إلا ترديدا لكلمات أغنيةٍ ليبيةٍ تقول "من يجرأ يقوا .. هذا مش معقول".