ليست وصفة وإنما احتياج
لعل الصداقة هي الأكثر عمقا وتجذّرا بين العلاقات الإنسانية الأخرى، فهي الوحيدة التي تتم باختيار واع بين الطرفين. كل العلاقات الأخرى محكومة إما بالمصادفة، كعلاقة الأهل، أو بالمصالح المتبادلة كعلاقات الزمالة والعمل، أو محكومة بالهوى والرغبة كعلاقة الحب. الصداقة هي العلاقة الوحيدة التي يختارها أحدُنا بناء على مجموعة محدّدة من القواعد التي تتعلق بالقناعات المتبادلة والمشتركة، وبالرؤية عموما إلى الحياة وطبيعتها وعلاقاتها، وبأقل قدرٍ من الاختلاف على الأسئلة الإشكالية في الحياة. والأهم هو تلك المساحة المتاحة للحرية الشخصية لكل طرف من أطراف علاقة الصداقة، وتلك المودّة المديدة التي تجعل من الغياب الطويل مجرّد زمن لا يؤثر على سيرورة الصداقة وشكلها وعمقها. ثمّة أصدقاء لم أرهم من سنوات، ومع ذلك أعرف جيدا أنني إن التقيتهم اليوم سنواصل ما انقطع، كما لو أن زمنا لم يمر ويبعدنا. في الحب لا يحدث هذا، إنه يحتاج إلى تواصل. البعد في الحب انقطاع كامل، فشرطه لا يتحقق في البعد، الاحتياج والرغبة ملحة، والبعد يجعلنا نبحث عنهما لدى آخرين، ما يهدد علاقة الحب فعلا، والأمثلة في حياتنا أكثر من أن تحصى أو يحكى عنها. أما العلاقة الأسرية فتبقى في مكانٍ مختلف، محكومة بروابط عديدة ومتشابكة، وإن كانت من أجمل العلاقات حين يتمكّن الأخوة من تحويل علاقتهم إلى الصداقة، أو حين أستطيع أن أبني علاقة صداقةٍ مع ابنتي، بدلا من علاقة الأمومة التي تحمل كثيرا من الوصاية، وهو ما سوف يصبح عبئا عليها في مرحلةٍ ما من حياتها.
سابقا، كنت أظن أن علينا في صداقاتنا أن نكون أكثر صراحة مع الآخرين، وأننا يمكننا أن نكون كما نحن تماما في ما يخصّ آراءنا بهم، وأن واجب الأصدقاء أن يكونوا مرايا تعكس الصورة الحقيقية لنا، وهو ما يعني أن يخبرني صديقي/ صديقتي، عن أخطائي، وأن يشير إلى نقاط ضعفي، وأن يُرشدني، إن صحّت المفردة، إلى ما يتوه عني في زحمة الحياة. قد يكون ما سبق مطلوبا ومقبولا في مرحلة الشباب، حين تكون أرواحنا ما زالت مرنة، ومستعدّة لتلقّي صدمات الحقيقية، وعندما تكون قلوبنا تمتلئ بالدم الذي تورّده إلى باقي أجسادنا، ولا مكان فيها يتسع للقهر أو للحزن، وحين تكون قناعاتنا في طور التغير المستمر، وعقولنا لا تتوقف عن الأسئلة والبحث عن الحقيقة. في تلك المرحلة، تكون المساحة بين الأصدقاء محتلة من الصراحة التامة، من دون أي حاجةٍ للتجمّل والتجميل والمجاملات، أنت كما أنت، وأصدقاؤك كما هم، لن يجامولك ولن يقولوا لك ما يرضيك، وفي الوقت ذاته، ليسوا أوصياء عليك. في تلك المرحلة قد يغير الأصدقاء شخصبات بعضهم بعضا، وقد تتغيّر الصداقات نفسها، حين تصبح فائضةً عن الطاقة المحتملة للشخص.
الأمر يختلف الآن، أقصد حين ندخل مرحلةً متقدّمة من العمر، حين نكون قد تشكلنا تماما، وتشكلت هوياتنا الشخصية بنسختها النهائية، حيث لا مجال للتراجع ولا للتغيير، وحيث أرواحنا لم تعد تملك تلك المرونة التي تجعلها تتلقى صدمة الحقيقة من دون أي أذى، وحيث قلوبنا التي كسرتها أحداث الزمن لم تعد قادرةً على تحمّل المزيد، وحيث نقاط ضعفنا جزء من شخصياتنا المكتملة. في هذه المرحلة، تتغير متطلبات الصداقة جدا. ما أحتاجة من أصدقائي اليوم هو الدعم النفسي والمعنوي، أن يعزّزوا لدي ما يملأ نقاط ضعفي. لا أحتاج الحقائق اليوم، ولا الصراحة. أحتاج إلى انتباههم، إلى ما يُسعدني، ويعلي ثقتي بذاتي وبأنوثتي وبكياني، تلك الثقة التي تضعف وتهبط نتيجة التقدّم في السن، خصوصا لدى النساء. أحتاج إلى أن يسمعوا أحاديث طويلة عن مكابداتي، وأسمع مكابداتهم من دون تدخل، من دون نصائح. أحتاج أن يخبروني أنني جميلة، ومتميزة، وأنني على حق، حتى لو يرون العكس. في سننا المتقدمة هذه نحتاج إلى الاهتمام، اهتمام الأصدقاء تحديدا، نحتاج اهتمامهم وصلتهم ودعمهم.
لا تُبنى العلاقات الحقيقية في الفراغ المجرّد. تحتاج إلى أدوات وشغل وانتباه لتبنى، تحتاج إلى قليل من الحساسية والاستماع إلى صوت الصديق الصامت، إلى الانتباه لما يحتاجة اليوم من الكلام والدعم، إلى السؤال وإلى "الحنية" التي تعني الاحتواء والحضن في الوقت نفسه. لا أحد يفعل هذا غير الأصدقاء الحقيقيين، محظوظ من يجد في حياته أصدقاء يفهمون ما يريد من دون أن يقول شيئا، محظوظ أيضا من يمكنه أن يكون صديقا حقيقيا لآخرين، نحن في زمنٍ بالغ القسوة، محظوظٌ من يحظى فيه ببعض "الحنية".