لُبنان درسٌ لأكراد سورية

12 أكتوبر 2024

(حسن جوني)

+ الخط -

أعيدُ كتابة اقتباس نُشِر في مقالي "لُبنان الذي يفيضُ موتاً" ("العربي الجديد"، 30 /9/ 2024) عن جنوب لُبنان ومقصلته ودمائه المهدورة، إذ إنّ "الشماتة شعورٌ مرذول وغير إنساني بداهةً"، لكن الاستفادة من دروس الآخرين تعتبر عقلاً سياسياً راجحاً. والمؤسف أنّه الفعل المفقود، والمطلوب حالياً في الوسط الكردي، والمؤسف أنّ لبنان، قِبلة عشاق الحرية، تحوّل رُكاماً من الجثث بفعل الحرب الإسرائيلية عليه، والأسوأ أنّ الأبرياء يدفعون ثمن مغامرات الآخرين، ولنتصوّر أنّ القواعد الاجتماعية المسالمة والمدنية أيضاً تدفع ثمنَ تداعيات الحرب الإسرائيلية على غزّة. أيُّ بؤسً يعيشه لبنان!

حرب إسرائيل على لبنان هي الشغل الشاغل للعالم، ولا بدّ أن يتحوّل درساً قاسياً للكرد في سورية، بل أن يحوز اهتماماً يفوق أيَّ قضية أخرى؛ فما يحدث في لبنان ارتدادات وانعكاسات ستعيد ترتيب الواقع السوري حتماً، ما يعني أنّ القضية لا تتعلّق بالمصطفّين في دائرة النظام والموالاة فقط، ولا حتّى في صفوف المعارضة وجيشها الوطني، الذي لا نكنّ نحن الأكراد لبعض فصائله سوى أشكال الرفض والاستهجان كافّة، لما اقترفته عناصره من جميع أشكال الانتهاكات والجرائم ضدّ المدنيين في عفرين وسري كانيه (رأس العين). وعلاقة تلك الفصائل بما تدور حوله المقالة، هي أنّ التغيّرات التي ستطرأ على سورية، لن تكون تركيا في معزل عنها أو بعيدةً من نتائجها، خاصّة لما شكّلته أدوار إيران وحزب الله وتركيا من ثقل في راهن ومستقبل الشرق الأوسط، وسورية من ضمنه.

فمن أكثر السيناريوهات ترجيحاً أنّ وجود إيران في سورية لن يرضي تلّ أبيب وآلتها الحربية، وفي حال انسحابها أو تقليص نفوذها، فإنّ سدّ الفراغ الذي ستُشكّله غالباً سيكون في صالح روسيا والقوات النظامية السورية، خاصّة في مناطق دير الزور والبوكمال، وحلب حيث ستتنافس معهم تركيا، وهو ما يعني تغييراً في قواعد الاشتباك ونقاط التماس مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، العضو في التحالف الدولي. وتالياً، فإنّ تغيّرات في التوازنات العسكرية الدولية ستكون في طريقها لإحداث زلزال جديد في سورية، ما لم يكن ذلك بتوافق جميع القوى الفاعلة في الملفّ السوري. وهذه التغيّرات ستصل إلى مناطقَ وجود النفوذ التركي في شمال غربي سورية، ونقاط سيطرة فصائل المعارضة السورية، وإدلب بطبيعة الحال، التي ستكون من ضمن المقايضات والاتفاقيات غالباً، ولعلّ قصف الجيشن السوري والروسي مناطقَ سيطرة أبو محمد الجولاني خير رسالة على ذلك. وأمام هذه التبدّلات التي بدأت مؤشّراتها بالظهور والتطوّر، فإنّ الواقع الكردي هو الآخر هشّ وتعيس، ويشهد تجاوزَ عضّ الأصابع إلى كسر العظم بين الأطراف السياسية. وغالب الظنّ لن تكون لطرفٍ واحدٍ قائمةٌ من دون الآخر، خاصّةً أنّ سيناريوهات الحرب الإسرائيلية على دمشق هي من ضمن احتمالات غير بعيدة، وهو ما يعني أنّ المنطقة الكردية بحاجة إلى قوّة ضبط الأمن والنظام، للحيلولة دون انجرارها إلى الفوضى، مع التأكيد أنّ كارتيلات السلطة والفساد ستنهش في لحم الأبرياء، وتستغل الفرصةَ أفضلَ استغلالٍ، وضمن السياق ذاته، من الواضح حاجة الكرد لتمثيل سياسي ودبلوماسي، ولا يمكن للآخر أن يُقرّر مصير كرد سورية بالنيابة عنهم.

لن يكون من نتائج العنف سوى مزيد من العنف، ولا مخرجات للتحريض سوى كثير من ردَّات الفعل على التحريض

ولوضع الأمور في نصابها، تفرض اللحظة الراهنة الحديث بصراحةٍ عن الواقع المرير الذي يعيشه الكرد في سورية، بدءاً من تفكيك خزّانهم البشري وتقطيع أوصال الجغرافية الكردية، وصولاً إلى تدمير روحهم المتّقدة، وهو أمرٌ يُسحب على السوريين جميعاً بطبيعة الحال، لهذا وبدلاً من العنتريات والحديث الشعوبي، لا بدّ من فتح باب نقاش صريح، بعيداً من اللغة الخشبية، على أمل أن تُفيد القضية الكردية في لحظة ما، عوضاً عن تدهورها. والانطلاقة الأساس هي أنّ الوضع الكردي في سورية خطير، ومأزوم، وعلى شفير الهاوية، ولا مكان لأيّ نقاش سفسطائي عقيم، خاصّةً أنّ الناس يسمّون الأشياء بأسمائها، ومنذ بدء العمليات العسكرية ضدّ حزب الله، وارتفاع منسوب التهديد الإسرائيلي ضدّ إيران، بدأت الساحة الكردية بالحركة مُجدَّداً، بعد أن شهدت ركوداً، ويأساً في الأعوام الماضية من حالهم وحال أحزابهم، وبدأت حركة النُخَب بالتسارع ما بين التحليل وإبداء الرأي، أو تقديم قراءات وتوقّعات.

ومن ضمن تلك الأصوات، ثمّة من يُقدّم مقارنةً واضحةً بين السوريين الذين يُمنعون من العودة إلى ديارهم، خاصّةً في الغوطة وأرياف حمص وإدلب وحلب، وفي الوقت الذي لا يزالون يتّخذون من الخيام ملجأً ووطناً مؤقّتاً لهم بسبب الهجرة والتهجير والحرب التي دارت هناك... نقول، ثمّة من يقارن وضع هؤلاء بوضع أهالي عفرين وسري كانيه (رأس العين) وتلّ أبيض، الذين يُمنعون أيضاً من العودة إلى ديارهم، مع الكمّ الكبير من النهب والانتهاكات التي تحصل هناك، وهؤلاء كلّهم ينتظرون أن تتغيّر موازين القوى على أمل العودة إلى ديارهم. هذا النقاش يقود أصحابه إلى البحث عن أفضل السُبل التي تقي الكرد شبحَ حروبٍ جديدةٍ، وتحملهم إلى برّ الأمان، وتحمي الكرد في سورية من ثلاثة خطابات عقيمةٍ، أولها الخطاب الطائفي الذي يُحرّض على الحرب، ولا شيء سواها، في التعامل مع الكرد، وهو ما يقود لخطاب الكراهية والعنف ضدّ الكرد. وثالث الخطابات هو خطاب التشفّي، وهذا يخصّ الكرد فيما بينهم أيضاً، مستقبلاً داخلياً، وليس خارجياً فحسب. وهو ما يقود إلى ضرورة اتّباع خطاب إعلامي كردي يُحفّز النُخَب الكردية، والشباب، والشرائح كافّة، على انتظار إعادة إحياء الحوارات الكردية الكردية الداخلية، عوضاً عن حملات التشهير والتخوين والتحريض، التي تطاول قيادات وصحافيين وكتّابا وباحثين كردا، وبالعموم لن يكون من نتائج العنف سوى المزيد من العنف، ولا مخرجات للتحريض سوى كثير من ردَّات الفعل على التحريض، وهو ما يُعجّل في الانزلاق صوب عدمية ضارّة بالقضية الكردية. وفي هذه الأجواء المشحونة والمُخيفة، المطلوب أن لا ينسى الكرد أنّهم جزء من سورية، وأنّ السوريين أيضاً دفعوا أنهاراً من الدماء، وأنّ الموقف من الجرائم التي اقترفتها بعض فصائل المعارضة السورية، لا يعني بأيّ شكلٍ من الأشكال أخذَ وضعية الاستعداد للانقضاض على كُلّ ما يمّت بصلة للسوريين المُعارضين، وإلّا فنحن نجرح عدالة القضية الكردية نفسها. وعلى ذلك، فإنّ مزج القضية القومية الكردية في الحوار الكردي مع الديمقراطية وملفّ الحرّيات والتوازن الوطني، هو العمق الذي يجب أن يُعمَّم.

الموقف من جرائم اقترفتها فصائل سورية معارضة لا يعني الاستعداد للانقضاض على كُلّ ما يمّت بصلة للسوريين المُعارضين

ثمّة قواعد تفاهم واضحة في سورية، بين إسرائيل وروسيا، وبين الأخيرة وأميركا، وواشنطن مع أنقرة، التي تتّفق أيضاً مع روسيا، وكُلّها على قدر كبير من الأهمية، من ضمنها أُزيلت كثير من الخطوط الحمراء بشأن عدة قضايا عميقة متعلّقة بمصير المستقبل السوري، أو بشأن شخصيات فاعلة أو ما شابه. على هذا الأساس، كانت تلك القواعد لا تزال ساريةَ المفعول حتّى اليوم، وبالمعنى الأكثر تجريداً، لن يُشكّل كرد سورية شيئاً يُذكر ضمن معادلة صراع أو توافق القوة الفاعلة في الملفّ السوري، ما لم "يسمعوا الكلمة"، سواء من المصدر مباشرة، أو من جهات كردستانية فاعلة، ولو بحجمٍ وقوّةٍ أقلّ، كإقليم كوردستان العراق.

الواقع الذي فرضته الحرب على لبنان، وقبلها غزّة، وعمليات اغتيالات القيادات البارزة في حزب الله، والضغط الرهيب على إيران، يُحتّم على الجميع ضرورة تحصين القواعد الداخلية، وترتيب البيت الداخلي ضدّ المفاجأة التي ستأتي بها هذه الحرب، والتي من بينها رُبّما يكون النظام السوري هو الرابح الأكبر، إن لم يكن الوحيد فيها، والواضح أنّ مواقع ومحاور جديدة في طريقها للظهور، تحدّدها نتائجُ الحرب ومآلاتُ مصير حزب الله وإيران، ما سيعني حتماً الصراع للانتقال إلى تلك المواقع، وهو ما يُطلب من كرد سورية الاقتناع حقيقةً أنّ كُلّ شيء تغيّر، وأنّ "يباسة الراس"، واستمرار مروية "عدم التنازل"، لن تصطف إلا ضمن ملفّ المطويات والمُهملات لا غير.