مائة عام من الكفتة
"بعد جدال استمر لعدة شهور حول إمكانية اختراع إدارة الهيئة الهندسية بالقوات المسلحة لأجهزة علاج فيروس سي وفيروس الإيدز وبعد ظهور اللواء دكتور مكلف إبراهيم عبد العاطي وشرحه للأجهزة وطرق العلاج، وما أشيع عنه وملاحقة بعض وسائل الإعلام إليه، ظهرت بعض الحالات التي تواصلت مع عبد العاطي في رحلة العلاج بعد أن منّ الله عليهم بالشفاء وطالبونا بإظهار الحقائق كي يعلم العالم بأثره (الصحيح بأسره) حقيقة الاختراع وامتلاك مصر بالفعل لأجهزة العلاج من تلك الأمراض اللعينة والتي عجزت معامل الدول المتقدمة علميا واقتصاديا من التوصل لعلاج حقيقي لها".
الفقرة السابقة، على طولها وركاكتها اللغوية، منقولة حرفيا من صحيفة مصطفى بكري، ونشرت قبل عام وأربعة أشهر، تحت عنوان كبير يقول "الحالات التي تم شفاؤها ترد على اختراع المشككين في اختراع القوات المسلحة"، ومن لها غير مصطفى بكري، كي ينفرد وينثني وينكمش، وهو يهتف من أعماق حنجرته "تحيا مصر"، فرحاً بالعبور الطبي العظيم.
سنة وأربعة أشهر تفصل بين إعلان الهيئة الهندسية للقوات المسلحة عن اختراعها المعجز علاج الإيدز والأمراض المستعصية بجهاز الكفتة، وبين إعلانها، أمس، عن معجزة زراعية وتنموية جديدة في صحراء مصر الغربية، بعد تدبير مياه جوفية، تكفي لمائة عام من الزراعة.
لا يوجد مصري واحد لا يتمنى أن يكون ما أعلنته الهيئة الهندسية حقيقياً وصادقاً، كما لم يكن هناك مصري، ولا عربي ولا أعجمي واحد، لم يحلم بأن يكون اختراع الهيئة "العبد العاطية" بشأن القضاء على الإيدز وفيروس سي واقعاً وحقيقة.
يلفت النظر، هنا، أن اختراعات الجيش العملاقة لا تندلع إلا في مواعيد الغضب الشعبي الموسمية، إذ ولد وهم الكفتة في بداية أغسطس/آب 2014، شهر الذكرى الأولى لمذابح ميداني رابعة العدوية والنهضة وتوابعهما، بحيث بدا المقصود تخدير الوعي الجمعي، عن طريق حقنه بحلم، تم تصنيعه على عجل، فخرج على ذلك النحو من الإسفاف والابتذال.
والآن، مصر السيسية عائدة للتو من هزيمة ساحقة، في مباراة سد النهضة مع إثيوبيا، حيث لم يكن ثمة أداء، ولا التمثيل المشرف، كما يفعل محترفو الخسائر، عادت لتجد نفسها على موعد آخر للغضب العارم، الذكرى الخامسة للثورة التي أسال دمها عبد الفتاح السيسي ونظامه، فكان لا بد من الحقن بجرعة حلم أخرى، بامتداد مساحة الصحراء الغربية، علها تساعد، بالإضافة إلى إجراءات الترويع والإرهاب، في لجم تيار الغضب المتصاعد، والمصمم على الخروج إلى الشوارع والميادين في الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني الذي يقف على الباب.
أهان عبد الفتاح السيسي شرف العسكرية المصرية، وامتهن صورة الجيش كثيراً، غير أن الخدش الأكبر كان توريطه في كبرى الأكاذيب الاجتماعية والطبية، على مدار تاريخ مصر، واستخدامه في تسويق "وهم جهاز الكفتة"، تمهيدا لإعلان ترشحه لرئاسة البلاد، محمولاً فوق حلم قومي عظيم.
ينبئنا التاريخ أن جمال عبد الناصر فعلها قبل نصف قرن، حين أطلق مشروع "مديرية التحرير" ثورة زراعية جديدة، انمحت وسقطت من الذاكرة الوطنية بالتقادم، ثم كرّرها أنور السادات بثورة خضراء أخرى، في الصالحية، لم تصنع شيئاً سوى سحق الرقعة الخضراء في الدلتا، التي غزتها جحافل البناء المسعور على الأراضي الزراعية، ثم أتى حسني مبارك بحلم شرق العوينات وصحراء توشكي، وفي ذلك، روى لي خبير مرموق في الاستثمار الزراعي أن مبارك دعي لتفقد إنتاج المستثمرين الزراعيين في شرق العوينات، الذي لم ينتج شيئاً، فاستورد أحد رجال الأعمال، من مشاهير البلاط، الأرضي والفضائي، كميات من الحاصلات الزراعية التي تسر الناظرين من أوروبا، ففرح حسني مبارك، ووقف يلتقط الصور مزهواً بحصاد ثورته الزراعية الزائفة.
الآن، يفعلها السيسي، نقلا بلا تصرف، من أرشيف السابقين، ولا نملك، هنا، إلا أن نضع أيدينا على قلوبنا، وندعو الله أن يحمي جيش مصر وهيئته الهندسية من السقوط في بئر جديدةٍ للأوهام القومية الكبرى، من أجل أن يقف السيسي تلك الوقفة التي سخر منها عبد الرحمن الأبنودي، حين وقفها السادات، فكتب له:
كلّمها عن أموال جاية
وبنوك
وبيوت
وصحارى خضرا
وازرع شجرة
تطلع في الكاميرا
وقبل ما تمشي
تموت!!