ماذا بقي من الحياة السياسية في تونس؟
فجأةً، خفت كل الضجيج السياسي في تونس. لم تعد هناك حوارات سياسية صاخبة في الإعلام أو البرلمان، وتوقّفت كل الصحف الحزبية عن الصدور. لم يعد المواطن يرى تظاهرات حزبية، ولا نشاطات سياسية متتالية، وغابت وجوه المعارضة السياسية عن الإعلامين، الخاص والحكومي. يبدو كل شيء قد تلاشى فجأة، كما لو بسحر ساحر، غير أن الأمر أعقد مما هو عليه، وهو نتاج مسار بدأ منذ 25 يوليو/ تموز 2021.
بدأت ملامح النظام السلطوي الجديد تتشكّل تدريجيا بداية من تعطيل دستور 2014، مرورا بإخضاع السلطة القضائية، ثم وضع دستور جديد وتنظيم انتخابات برلمانية لم تحظ بمشاركة شعبية ملحوظة، وغابت عنها الأحزاب. كانت بنية النظام السلطوي المزمع تأسيسُه تقوم في جوهرها على تقييد الحرّيات العامة، والضغوط المختلفة على وسائل الإعلام وعلى العدالة، والشخصنة، فالسلطة الناتجة عن صندوق الاقتراع تتمحور، في حدّ ذاتها، حول شخصية الرئيس. في الواقع، يبدو النظام السلطوي الجديد بمثابة الشكل المقلوب للنمط الديمقراطي المعتاد؛ فبدلاً من سيطرة الشعب على السلطة دستوريًا، ومن خلال وسائل التعبير العام (الصحافة والاجتماعات والأحزاب والمنظمات)، فإن السلطة الحاكمة هي التي تهدف إلى السيطرة على الشعب باستخدام جميع الوسائل، ومنها تغيير المؤسّسات، وتحويلها إلى وظائف تابعة للحكم، وإخماد أصوات المعارضة. لذلك، كان اهتمام السلطة أولا بمراقبة شرعيتها داخل الجماهير بعناية من خلال ممارسة أشكال من الخطاب الشعبوي الذي يصور الحاكم في مواجهة الفاسدين والمحتكرين والمتآمرين على الدولة، وثانيا ممارسة درجة من القمع لا تؤدّي مع ذلك إلى وصف السلطة الجديدة بالديكتاتورية.
السلطة الجديدة ماضية في خطّتها نحو بناء نظام سياسي جديد، يتم من خلاله استبعاد الأحزاب وإضعاف دور المنظمات
شهدت تونس، منذ "25 يوليو" وبشكل مستمرّ، استفتاء سنة 2022 ومحطّة انتخابية أولى سنة 2023، وثمّة محطة انتخابية في آخر شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري. ورغم ضعف المشاركة الحاصلة في الانتخابات البرلمانية السابقة (لم تتجاوز 11%)، إلا أن السلطة الجديدة ماضية في خطّتها نحو بناء نظام سياسي جديد، يتم من خلاله استبعاد الأحزاب وإضعاف دور المنظمات. الواضح أن النظام الجديد يعتبر، أولاً وقبل كل شيء، أن البحث عن الشرعية في هذه الظروف يتطلّب إنشاء هوية مفترضة بين الذين يحكمون والمحكومين، وهذا موضوعٌ متكرّر لدى الأنظمة السلطوية التي تدّعي أنها الترجمة المباشرة للإرادة الشعبية، وضد كل أنظمة الوساطة أو التمثيل (على النحو الذي مثلته التجربة الديمقراطية ما بعد الثورة على علاّتها)، فالهوية السياسية الجديدة التي تتم صياغتها تقوم على "ديمقراطية مباشرة مفترضة"، وهو ما تتم تهيئة المشهد له من خلال الانتخابات المحلية المقبلة، والتي تتم على مستوى أصغر الوحدات الإدارية والترابية، وهي العمادات، حيث تتشكّل المجالس المحلية، ومنها يتم تصعيد أعضاء المجالس الجهوية، ومنها إلى مجالس الأقاليم، وأخيرا أعضاء المجلس الوطني للجهات والأقاليم. يبدو الأمر كأنه استعادة لتجارب مماثلة تقوم على ثنائية القائد صاحب الصلاحيات المطلقة والشعب المتحرّر من تمثيلية الأحزاب، بل ورفض إجراء التمثيل ذاته، بحيث تتّضح الهوية السياسية للحكم السلطوي، بوصفها علاقة بين الشعب الذي "يهتف" والقائد الذي يحكم من دون وساطة. وفي وقت مبكر من عام 2019، كان الرئيس الحالي، قيس سعيّد، قد دعا إلى التخلّص من الأحزاب بوصفها بؤرة للفساد. بمعنى آخر، تتطلب سلطة الشعب رفض الوساطات المؤسسية التي تؤسّسها الديمقراطية المعتادة، من أجل تعزيز إرادة الشعب النقية، حسب وجهة النظر هذه.
جرى إقصاء كل الوجوه السياسية، بعضها من خلال إيداعها السجن بتهم مختلفة
لقد جرى إقصاء كل الوجوه السياسية، بعضها من خلال إيداعها السجن بتهم مختلفة. ولكن من دون محاكمة، وفي الوقت نفسه، تم إخضاع المؤسسات ذات الطابع المستقلّ، مثل القضاء، وتضييق هامش عمل المنظمات الاجتماعية والمدنية إلى الحد الذي أصبحت فيه مجرّد ظل لما كانت عليه في السنوات العشر ما قبل 25 يوليو/ تموز 2021. فعمادة المحامين والاتحاد العام للشغل واتحاد الأعراف التي حصلت يوما على جائزة نوبل للسلام لدورها السياسي أصبحت اليوم هيئات فاقدة لفاعليتها، بل وتبحث عن حيّز لنشاطها خارج نفوذ النظام السلطوي.
لقد تجمّدت الحياة السياسية في تونس، وفقدت حيويتها وألقها، وإذا كان بعض ما تعانيه الأحزاب والمنظمات اليوم هو نتاج سوء أدائها وخلل فهمها للتعاطي مع التحوّل الديمقراطي، بل وتآمر بعض أطرافها عليه، إلا أن هذا لا ينفي أن تشكّل نظام سلطوي على أنقاضها لا يعني التحوّل نحو نظام أمثل أو أداء سياسي واقتصادي أفضل، وهو ما تؤكّده الأزمات السياسية والاقتصادية المتواصلة. بل يكشف ضعف المشاركة الشعبية وغياب الامتداد الجماهيري أن تشكيل نموذج حكم جديد إنما هو تجربة لا تملك مقوّمات النجاح الضرورية، على الأقلّ في المدى المنظور، مهما حاولت أدوات الدعاية الرسمية تصوير المشهد على غير حقيقته.