ماذا تنتظر حماس؟
تتصدّى حركة حماس للعدوان الصهيوني - الأميركي المركّب، عسكريًا وسياسيًا وثقافيًا، بفاعليةٍ كبيرةٍ، وإعدادٍ جيدٍ، وثباتٍ وطنيٍ وسياسيٍ مميزٍ، لكن ذلك كلّه لا يكفي لهزيمة المخطّطات الصهيونية الأميركية، نظراً إلى تعدّده وخبثه وضخامة إمكاناته، كما لتنوّعه بين اعتداءاتٍ تستهدف الكلّ الفلسطيني، وأخرى تستهدف مجموعاتٍ محدّدةٍ، منها حركة حماس ذاتها، فضلاً عن استهداف مرتكزات القضية الفلسطينية وحواملها، كما في استهداف وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). لذا كثرت الدعوات المؤكّدة على ضرورة توحيد الصف الفلسطيني، على اعتباره شرطاً رئيسيّاً لإفشال كلّ مخطّطات الاحتلال وداعمه الأميركي، بيد أن الواقع الفلسطيني الراهن لا يشي بتلك الإمكانية، خصوصاً في ظلّ تعنت قيادة السلطة التي تقود منظّمة التحرير الفلسطينية أيضاً، وتفرّدها وإصرارها على نهجها الاستسلامي الذي ثبت فشله باعتراف قادتها أنفسهم، فضلاً عن رهانها الخاسر دوماً على الرضا الأميركي، وللأسف الصهيوني أيضاً.
لم تمارس قيادة المنظّمة/ السلطة دورها القيادي منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول (2023)، بل منذ عقودٍ طويلةٍ خلت، إذ تجاهلت المطالب الشعبية المتنوّعة، والحقوق الفلسطينية، والمخاطر المُحدقة بها، فضلاً عن تجاهلها الانقسام الفلسطيني السياسي والجغرافي، إلى جانب إصرارها على نهجها، رغم فشله مراراً وتكراراً، لتتعنّت على مواقفها ذاتها التي صاغتها منذ عشرات السنين؛ بالحدّ الأدنى منذ اتفاق أوسلو، وكأنها وحدها صاحبة الرؤية الثاقبة والنظرة الفاحصة، كما لم تتردّد هذه القيادة الفاشلة في تسخير المال السياسي ورقةً رابحةً للابتزاز السياسي، ولقمع الأصوات الناقدة والمعارضة فلسطينيّاً وفتحاوياً.
الوحدة الوطنية الفلسطينية الممكنة وفق رؤية قيادة السلطة والمنظمة الفاشلة تتمثّل في خضوع الكلّ الفلسطيني لإرادتها وإدارتها، من دون قيدٍ أو شرطٍ
بناء عليه، بات من الواضح أن الوحدة الوطنية الفلسطينية الممكنة وفق رؤية قيادة السلطة والمنظمة الفاشلة تتمثّل في خضوع الكلّ الفلسطيني لإرادتها وإدارتها، من دون قيدٍ أو شرطٍ، الأمر الذي يجعل من هذا الخيار انتحاراً فلسطينيّاً جماعيّاً، قد يقوّض القضية الفلسطينية، ويهدم حركتها التحرّرية، وينهي آمال الشعب الفلسطيني في استعادة كلّ حقوقه المشروعة، في مقابل إهداء الاحتلال وداعميه مكاسب سياسية وميدانية مجانية قد تفوق تصوّراتهم.
لذا يجب ألا تنحصر خيارات الفلسطينيين اليوم برغبات قيادة المنظّمة والسلطة، إذ يملك الفلسطينيون خياراً بديلاً لا تفضّله معظم القوى الفلسطينية، بل ربّما معظم الفلسطينيين، لإنه خيارٌ من خارج إطار منظّمة التحرير التي تهيمن عليها السلطة وقيادتها ماليّاً، وبالتالي، سياسيّاً وإداريّاً، الأمر الذي يعيق أيّ دورٍ للمنظمة من دون موافقة قيادتها ومباركتها، التي هي ذاتها قيادة السلطة، الأمر الذي يجعل من الخيار البديل أمراً ضروريّاً/ حتميّاً اليوم.
ينطلق خيار الفلسطينيين البديل؛ في ظلّ الظروف الذاتية الراهنة، من دعوة حركة حماس مجمل القوى الفلسطينية إلى تشكيل قيادةٍ فلسطينيةٍ موحّدةٍ، تتحمّل كامل المسؤوليات السياسية والإدارية، من إدارة مباحثات الهدن الإنسانية، ووقف إطلاق النار، والمفاوضات السياسية غير المباشرة، إلى قيادة النضال الشعبي الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها، فضلاً عن مسؤوليّتها في صياغة خطاب فلسطيني قانوني وموضوعي يشمل كلّ الحقوق الفلسطينية من دون تنازلٍ أو مساومةٍ، كما تساهم في وضع استراتيجيةٍ فلسطينيةٍ جامعةٍ لمجمل الجهود النضالية داخل الوطن وخارجه، وأخيراً، قد تلعب هذه القيادة دوراً محوريّاً في تنظيم شؤون الفلسطينيين وإدارتها. ويتطلب الخيار البديل، بدايةً، دعوةً جدّيةً تطلقها فصائل المقاومة الفلسطينية، وتحديداً حركة حماس، على اعتبارها الطرف الممسك بزمام العمل المقاوم اليوم، نظراً إلى نفوذها الكبير داخل فلسطين وخارجها. ثم لا بدّ من تجاوبٍ واسعٍ مع دعوة "حماس" من معظم الفصائل الفلسطينية، والقوى السياسية، ومؤسّسات المجتمع المدني، والهيئات والجمعيات السياسية والاجتماعية والحقوقية والإعلامية، إلى جانب تجاوب الناشطين والمثقفين.
سعت حركة حماس، في مناسباتٍ سابقةٍ، إلى تشكيل أجسامٍ سياسيةٍ جامعةٍ تدور في فلكها، خصوصًا في المرحلة التي أعقبت وفاة ياسر عرفات
تاريخيًا؛ سعت حركة حماس، في مناسباتٍ سابقةٍ، إلى تشكيل أجسامٍ سياسيةٍ جامعةٍ تدور في فلكها، خصوصًا في المرحلة التي أعقبت وفاة ياسر عرفات، في محاولةٍ منها لكسر هيمنة تيار محمود عبّاس على المنظمّة والقرار الفلسطيني بقوة الأمر الواقع، لكن أيّاً من محاولات حماس تلك لم تنجح، لأسبابٍ عديدةٍ أهمّها؛ أنّها قد بدت مسعىً حمساويًا لاستبدال منظمّة التحرير بهيئةٍ تمثيليةٍ جديدةٍ كلّيّاً، تمسك "حماس" بزمام أمورها، ما يعني أنّنا أمام استبدالٍ شكليٍ من هيمنة قيادة فتح إلى هيمنة قيادة "حماس"، مع احتمالٍ راجحٍ لخساراتٍ إضافيةٍ تتعلق بمكانة المنظّمة إقليميّاً ودوليّا، وتعزيز الانقسام الفلسطيني، وخسارة موارد المنظّمة المالية.
في مقابل ذلك؛ بات تشكيل قيادةٍ فلسطينيةٍ موحّدةٍ من خارج إطار منظمة التحرير الآن حاجةً فلسطينيةً ملحّةً وعاجلةً، لأن تداعيات تأجيل تشكيلها أكبر من المخاوف المترتبة على تشكيلها من دون موافقة قيادة المنظّمة/ السلطة. كما قد لا يؤدّي الخيار البديل بالضرورة إلى حلّ منظّمّة التحرير، بل قد يساهم في إنعاشها، على الرغم من قناعة الكاتب بصعوبة ذلك لاعتباراتٍ عديدةٍ. أخيراً؛ يجب أن تدرك حركة حماس أن الحاجة الملحّة إلى تشكيل قيادةٍ فلسطينيةٍ موحّدةٍ لا تعني هيمنتها عليها، بل على العكس، لأن المرحلة تتطلّب قراراً فلسطينيّاً تشاركيًا وجامعاً، وتوافقاً واسعاً، وقراراتٍ حاسمة لا يصحّ ولا يجوز التفرّد بها لتحقيق المصلحة الفلسطينية أولاً، كما لمصلحة حركة حماس ثانياً، التي تواجه ضغوطًا كبيرةً، ومؤامرةً خطيرةً.
المرحلة تتطلّب قراراً فلسطينيّاً تشاركيًا وجامعاً، وتوافقاً واسعاً، وقراراتٍ حاسمة لا يصحّ ولا يجوز التفرّد بها لتحقيق المصلحة الفلسطينية أولاً
بناء عليه؛ ونظراً إلى محاولات "حماس" السابقة لتشكيل جسمٍ سياسيٍ جامعٍ، في مقابل إحجام "حماس" عن ذلك اليوم، يجد الكاتب إحجام حماس الحالي مثيراً للاستهجان والاستغراب في ظلّ الظروف الحالية، كما يمكن ردّه إلى أحد سببين: إما؛ استمرار سعي حماس إلى الهيمنة على الجسم السياسي الفلسطيني، أي إزاحة حركة فتح وتولي زمام الأمور بدلاً عنها، بالطريقة والأسلوب ذاته، عبر إقصاء الآخرين، ومن ثم ابتزازهم ماليًا وسياسيًا! وهو رهانٌ خاطئٌ في تقدير الكاتب أولاً، وخطيرٌ ثانيًا، لأن ثمنه باهظٌ ومكلفٌ على الكلّ الفلسطيني، على صعيد الخسائر البشرية والمادّية، كما على الصعيد السياسي، الذي قد يفضي إلى واقعٍ سياسيٍ وميدانيٍ جديدٍ أسوأ من واقع ما بعد "أوسلو".
أما الاحتمال الثاني؛ فمردّه تردّد حركة حماس في الإقدام على هذه الخطوة لاعتباريْن: أولهما خشيتها من تفسير الدعوة ضعفًا، يعكس عجز الحركة عن التعامل مع الضغوط الميدانية والسياسية الفلسطينية والإقليمية والدولية. في حين يعبّر الثاني عن خشيتها من إحجام القوى والهيئات والمؤسّسات الفلسطينية عن التعاطي الإيجابي مع دعوتها، لاعتباراتٍ ماليةٍ غالبًا، في ظلّ تحكم قيادة حركة فتح بمنظّمة التحرير وأموالها. هنا قد يساعد إعلاء الأصوات المطالبة حركة حماس بالمبادرة لهذه الخطوة في كسر تردّدها، كما قد يساهم في ذلك أيضاً إعلاء الأصوات المنتقدة لتقاعس قيادة المنظّمة والسلطة، والمطالبة بتنحيها أو على الأقلّ عزلها. فضلاً عن قدرة تيارات "فتح" المعارضة لتوجّهات قيادتها وقيادة المنظّمة والسلطة على كسر تردّد "حماس"، عبر مواقف صريحة ومباشرة تطالب "حماس" بذلك، وتقف في وجه توجّهات قيادة المنظمّة بجرأةٍ وحسمٍ.