ماذا على الأردن أن يفعل؟
يقع الأردن في بؤرة ساخنة، ليس لجهة وجود حدود مباشرة مع فلسطين المحتلّة فقط، بل لأنّنا نُشكّل ما يشبه العازل بين فلسطين المحتلّة ومن يريد أن يهاجمها من قوى المقاومة، سواء من العراق أو من إيران أو حتّى من اليمن. بل إنّ كرة اللهب المشتعلة في لبنان الآن ليست بعيدة منّا، خاصّةً أنّ النيران المشتعلة هناك منذ نحو السنة، وازدادت اشتعالاً أخيراً، تلقي بظلالها على الأردن. وبالجملة نحن تبعاً للاعتبارات الجيوسياسية لا يمكن أن نمارس حياتنا الطبيعية بزعم أنّنا في منأى عن التأثّر لأنّ النار ليست في أرضنا بل عند الجيران. يفرض هذا الواقع جملةً من الاستحقاقات الشعبية والرسمية، ويفرض أيضاً قدراً من التناغم لا التضادّ والتناقض، فالأمر جللٌ، والخطر داهمٌ، وحين يقع (لا سمح الله!) لا يُفرّق بين وزير وغفير، ولا بين رسمي وشعبي.
للوهلة الأولى سيقفز هنا من يقول لك إنّ الأردن محمي من أي أخطار بسبب "القانون الدولي"، والاتفاقات التي يرتبط بها، والتحالفات التي أبرمها مع مُؤثّرين في الساحة الدولية، والحقيقة أنّ المجتمع الدولي وقوانينه البائسة لم تحمِ أحداً لا من جرائم الكيان الصهيوني، ولا من أيّ أخطار أخرى، خاصّةً حين يتعلّق الأمر بازدياد الهوّة بين طبقة الحكم والشارع، والمثل الأكبر الذي يقفز إلى الذهن هنا، أنّ شاه إيران، أبرز حلفاء الغرب، تُرِك نهباً لغضب الشارع، حتّى أنّ بعض حلفائه رفض استقباله حينما هرب، وقل مثل ذلك عن حكم زين العابدين بن علي في تونس، وعن حسني مبارك في مصر، وعن نيكولاي تشاوتشسكو في يوغسلافيا السابقة، والأمثلة كثيرة، بل إنّ القانون الدولي أصلاً، وما تفرع عنه من محاكم دولية واتفاقيتَي جنيف الأولى والثانية، وبقية اتفاقات حقوق الإنسان، كلّها تهاوت وديست بالنعال بعد ما حدث في غزّة، لسبب واحد ومهم، وهو أنّها لم تفصّل لتطبيقها على الرجل الأبيض، بل هي مُخصَّصةٌ لكي تكون سوطاً في يد من يمسك صولجان القوة في العالم، وهم مجموعة تضمّ شلّة من اللصوص وقطّاع الطرق الدوليين المتحالفين مع مؤسّسات رأس المال الضخم، الذي تستحوذ عليه مجموعة من البنوك الكبرى وشركات الأدوية والسلاح وتوزيع المُخدِّرات والتكنولوجيا.
فيما يخصّ اتفاق وادي عربة (1994) بين الأردن والكيان (ولا أسمّيه اتفاق سلام، فهو لم يجلب لا سلاماً ولا أمناً ولا اقتصاداً ولا استقراراً) فهو اتفاق بات، كما وصفه وزير الخارجية الأردني، ورقةً تعلوها الغبار، أو "كادوك" وفق التعبير الذي استعمله المرحوم ياسر عرفات، واصفاً ميثاق منظمة الحرير الفلسطينية بعد توقيعه اتفاق أوسلو (1993) المشؤوم. ويكفي هنا أن نستدعي بعضاً من أدبيات صهاينة اليمين الذين يقفون في رأس هرم السلطة في الكيان لندرك أنّ اتفاق وادي عربة تمّ تجاوزه اليوم، ولم يعد ذا بال، فغدا الأردن بالنسبة لهؤلاء هو الوطن البديل فعلاً لا قولاً، ونكاد نسمع يومياً تهديدات صهيونية بأنّ الدور على الأردن بعد غزّة ولبنان، بل يذهب كثير ممّن يملك سلطة القرار في الكيان إلى حدّ وضع الخطط لتهجير قسري أو "طوعي"، من غرب النهر إلى شرقه، وهو أمر لم يعد خافياً على أحد، وبات مترجماً في خطط موضوعة على الطاولة، لا في الأوراق البحثية فقط.
لا نطالب بتحرير فلسطين، بل بحماية الأردن ممّا تعرّضت له شقيقتها
وفي المحصّلة، لا يحمي الأردن إلّا سواعد أبنائه وجيشه ونشاميه ونشامياته، والخطر الذي تهدَّد فلسطين، ولبنان أيضاً، ليس بعيداً عنّا، فنحن أمام كيان فقد عقله نتيجةَ ما أصابه من إهانةٍ بعد "طوفان الأقصى"، فبدأ يتصرف كالكلب المسعور، مغترّاً بجنون القوّة، فطفق يتصرّف كأيّ بلطجي هائج، لا يقيم وزناً لأيّ اعتبار قانوني أو أخلاقي، ما دام يمتلك تفويضاً تاماً، وشيكاً على بياض من الولايات المتّحدة، التي فتحت له مخازنها كلّها من السلاح والذخيرة، ووفّرت له غطاء دولياً، مع أنّه ليس بحاجة لهذا الغطاء أصلاً، لأنّه غير موجود، ولا يُفعّل إلّا بالمشيئة الأميركية.
فإن كان ذلك كذلك، ماذا علينا أن نفعل في الأردن لمواجهة هذا الثور الهائج؟ وكيف نتحصّن للدفاع عن هذا الوطن؟ هل يمكن أن ندفن رؤوسنا في الرمل ونقول إنّا في مأمن من هذا الخطر؟ هل نبقى نذهب في الصباح للتبضع، ونسترخي على الأرائك مساءً نتناول المكسّرات ونتابع أخبار فلسطين ولبنان، وكأنّ ما يجري فيهما في كوكب آخر؟ وإن تفاعلنا فلتكن وجهتنا ساحة مسجد الكالوتي أو المسجد الحسيني لتُبحَّ أصواتنا هتافاً لفلسطين والمقاومة، ثمّ نعود إلى ما كنّا فيه؟ هل يكتفي رسميونا وشعبيونا بإصدار بيانات الشجب وقذف الدعوات لما يسمّونه "المجتمع الدولي" للجم العدوان، وهذا المجتمع هو من يرسل السلاح والقنابل الذكية لهذا الاحتلال، فيما توفّر له أساطيل وطائرات استطلاع هذا المجتمع ما يكفي من معلومات ودعم لوجستي، كي يتقن العدوان عربدته على النحو المطلوب؟
قيل كثير عمّا يمكن أن نفعله في الأردن، ابتداءً من إعادة التجنيد الإجباري والجيش الشعبي، وانتهاء بوضع خطط طوارئ أمنية ومجتمعية في حالة حدوث خطر، لكنّني أعتقد أنّ أهم ما يمكن أن نفعله اليوم هو ترميم جبهتنا الداخلية، ردم الهوّة التي اتّسعت كثيراً بين طبقة رجال الحكم والشعب، إعادة الهيبة للدولة. والدولة هنا ليست الحكومة، بل هي السلطات كلّها، والمواطنون كلّهم. كانت الانتخابات النيابية محطّةً في الطريق الصحيح، لكنّها جزء صغير من عملية ضخمة لتمتين الجبهة الداخلية، وإصلاح ما أفسدته الحكومات والمسؤولون. لكنّ هذا لا يكفي، نحن على أعتاب مرحلة تُجهّز فيها خرائط جديدة للمنطقة، وإعادة توزيع وتموضع سكّاني، ولا يمكن مواجهة هذه المستجدات كلّها بالأدوات القديمة، والركون إلى نفس حائط الأمان الموهوم، الذي لم يعد موجوداً أصلاً.
أنا مواطن خائف ممّا سيأتي، ولا أشعر أن مسؤولي بلادي يأخذون الخطر القادم على محمل الجدّ، نحن بحاجة إلى خطط طوارئ مُعلَنة، لا إلى خلوات واجتماعات سرّية تستعمل نفس الأدوات القديمة، نحن لا نطالب اليوم بتحرير فلسطين، بل نطالب بحماية الأردن ممّا تعرّضت له شقيقتها، وألّا ندفع ثمن حلّ مشاكل الكيان في الأرض الأردنية.