ماذا عن "اليوم التالي" لنتنياهو؟
المهجوسون بـ "اليوم التالي" لغزّة، لماذا لا تتّسع مخيّلاتهم لتشمل هواجس "اليوم التالي" لنتنياهو واحتمالات مواجهة حتفه سياسيّاً وقضائيّاً نتيجة فشله الأمني في 7 أكتوبر، والعسكريّ في ميادين غزّة البطولية، والسياسي الذي أفضى إلى تمزيق سمعة كيانه الصهيوني في العالم شرّ تمزيق، حتى في الأوساط اليهودية نفسها رافعة شعار "ليس باسمنا".
الجميع، عرباً وعجماً، منشغل البال بمصير غزّة التي تدمي القلوب والعيون معاً، رغم أن لا خوف عليها بوجود شعب الجبّارين الذي انتصر على السيف بدمائه، ومقاومين سجّلوا للتاريخ سلسلة طويلة من الملاحم البطولية التي أدهشت العالم ويكفيهم حتى الساعة ما أنجزوا وما سينجزون في الميدان، حتى النصر أو الاستشهاد. حريّ بالعالم أن يُعْمِلَ الفكر والتحليل في ما ستؤول إليه حال الكيان المأزوم، المتخبّط في أزماته الكثيرة، العالق في رمال غزّة والسابح في دماء أبنائها، منتشلاً في الوقت عينه جثث مقاتليه ومرتزقته من أرضها الطاهرة.
كلّ يوم يمرّ هو بمثابة تأجيل لنهاية نتنياهو المحتومة ذلّاً وسقوطاً مدويّاً، ولن يطول الأمر لهذا السفّاح قبل أن يواجه حتفه على أيدي حلفائه وأسياده الأميركيين أنفسهم إذ ضاقوا ذرعاً به وباندفاعته الانتقامية المجنونة التي لا تتوقّف ولا تعرف حدّاً، من دون أفقِ حسم أو تحديد أهداف سياسية للقتل الممنهج للمدنيين، مخالفاً مقولة كيسنجر: "إذا كنت لا تدري إلى أين أنت ماضٍ فإنّ الدروب كلّها لن توصلك إلى أيّ مكان". ونتنياهو لا يدري بالتأكيد إلى أين هو ماضٍ، سوى أنّه مندفع بثأره غير البالغ منتهاه من الشعب الفلسطيني، في استعراض دمويّ يظنّ أنّه يحقّق له أمرين: تثبيت أوهامه القديمة المستمرّة بأن يكون آخر أنبياء "إسرائيل" وأعظمهم شأناً في التاريخ اليهوديّ، وأن ينجو برأسه من محاكماتٍ تتعلّق في نظره بقضايا "تافهة" قياساً بحلمه التوراتيّ – التلموديّ الذي يتوسل الدين (من عمقه ملحداً غير مؤمن لا بإله ولا بآخرة ولا بعقاب، إلّا بثواب من قومه اليهود الصهاينة) مثلما فعل قبله زعماء صهاينة قتلة ملحدون سبقوه أمثال هرتزل وبن غوريون وغولدا مائير وسائر أشباههم.
القضاء على "حماس" ضرب من الخيال لكونها جزءاً من النسيج الاجتماعي الفلسطيني، لا في غزّة فحسب، بل في الضفة الغربية والقدس أيضاً
حتى مقترحات "اليوم التالي" لغزّة لم يُماشِها نتنياهو، ولم يضع مخطّطه الخاص، لإدراكه أنّ الأمر سيخضع للتصويت في مجلس الوزراء. ومقابل "الحلول" المتطرّفة لمستقبل غزّة، كإعادة المستعمرات إليها والترحيل الجماعي لمليونين من سكّان القطاع وحتى "إبادة جميع السكان"!، رفض نتنياهو مثل هذه الدعوات، ولم يؤيّد مقترحات بديلة طرحتها أصوات أكثر اعتدالاً، ليس من فائض "عدالته" و"رحمته" و"إنسانيته"، بل بسبب ضعفه السياسيّ، إذ كان عليه دوماً منذ عودته إلى السلطة عام 2022، بعد فترة قصيرة أمضاها في المعارضة، أو يوازن بين ضروراته السياسية، وفي مقدمها تجنّب محاكمته وإدانته بالفساد، وضرورات شركائه في الائتلاف اليمينيّ المتطرّف وأشدّ رموزه سموتريتش وبن غفير اللذيْن يدعوان إلى مزيد من القتل والقمع. ورغم رغبته العميقة في تصفية القضية الفلسطينية بأكملها لإنجاز حلم "إسرائيل الكبرى" في عهده وزمنه، إلّا أنه فشل في تحقيق هذا الحلم سنوات طويلة، وما فتئ يراوح في دائرة الفشل، ولم يفلح حتى الساعة إلّا في تدمير معظم مناطق غزّة وبنيتها التحتية المدنية وقتل عشرات الألوف وجرح أكثر من مائة ألف وإفراغ شمال القطاع ووسطه وتهجيره السكان إلى جنوبه وفرض حصار تجويعيّ، إلى ما هنالك من "إنجازات" على كيان الاحتلال وحلفائه أن يخجلوا بها. إنّما لا مكتسبات سياسية أو عسكرية أو أمنية لنتنياهو وعصابته الحاكمة وجيشه المهزوم، والسبب غياب الهدف السياسي الذي ينهي كلّ حرب، بل حتى كلّ إبادة.
قد يهرب نتنياهو من مصيره الأسود إلى الفصل الأخير من إبادته الوحشية في رفح
في الجانب الأميركي، الشريك والموجِّه الفعليّ، لا يبدو أنّ إدارة بايدن ترغب في تغيير الوضع الاستراتيجي والجغرافي الراهن، وإذ تؤيد نتنياهو في محاولته القضاء على "حماس"، إلّا أنها تختلف معه بشأن "اليوم التالي" الذي تريد تمهيد طريق السلطة الفلسطينية إليه. ومع تفاقم الحراك العالمي، الشعبي وبعض الرسمي، ضدّ اندفاعة نتنياهو الإباديّة، برزت الحوافز لدى "المجتمع الدولي" لكبح جماحه وإنهاء هذه الحرب. في حين يروّج نتنياهو أمام المجتمع الدولي قدرته على فرض واقع جديد مختلف يراه ممكناً، فيما تُظهر الحقيقة أنه لن يتمكّن من تحقيق عُشر ما يطمح إليه، فالقضاء على "حماس" ضرب من الخيال لكونها جزءاً من النسيج الاجتماعي الفلسطيني، لا في غزّة فحسب، بل في الضفة الغربية والقدس أيضاً. أمّا عودة السلطة إلى القطاع، في حساب الأميركيين، فمجرّد حلم واهم لا علاقة له بالواقع.
بإقدام نتنياهو على مزج بقائه السياسي بما يعتبره "مصلحة إسرائيل" فإنّه يصعّب المهمّة على نفسه وعلى حلفائه، بل يجعلها مهمّة مستحيلة ذات أفق مسدود. لذا بات التفكير الأميركي، منذ فترة قريبة، جدّياً في التخلّص من هذا الرجل الذي يشكل خطراً على أميركا والغرب ومصالحهما في المنطقة وعلى "إسرائيل" نفسها. يفكر الأميركيون في "اليوم التالي" الخاص بنتنياهو، والانتخابات الإسرائيلية في العام الجاري أمر ممكن، خاصة إذا تصاعدت الضغوط الداخلية (بدفع من الأميركيين) لإجرائها. وتشير استطلاعات الرأي بوضوح إلى أن الأحزاب التي تشكّل الائتلاف الحالي ستُهزم (يقول بعضهم ستُسحق!) وستحقق أحزاب المعارضة نصراً يقودها إلى حكومة برئاسة غانتس، على الأرجح، أو أي خيار آخر. ويذهب نتنياهو إلى بئس المصير سياسياً وقضائياً.
يبقى حذران قائمان: أن يهرب نتنياهو من مصيره الأسود إلى الفصل الأخير من إبادته الوحشية في رفح، أو إلى حربٍ مع لبنان. على الجميع أن يأخذ هذين الاحتمالين في الحسبان.