ماذا لو أضرب الفنانون عن العمل؟
ثمّة سؤال لا يزال يلح علي بحثا عن إجابة، وأنا أشارك في الجولة الفرنسية التي تقام حاليا ضمن مشروع شعري مسرحي تحت عنوان "شاعرات"، بتنظيم من المخرج الفرنسي هنري جول جوليان، وبمشاركة شاعرات وممثلات عربيات وفرنسيات. سبب السؤال هو الوضع الذي تعيش فيه المدن الفرنسية حاليا، حيث المظاهرات اليومية والإضرابات التي جعلت جدول جولتنا يتغيّر عدّة مرات، بسبب توقف القطارات والحافلات وكل وسائل النقل العامة، وبسبب أثر ذلك على طاقة الفرنسيين ومزاجهم عموما، ما يجعلك ترى، أنت القادم من بلدٍ مثل مصر، شعبها اعتاد على الضحك، حتى في أحلك الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، أن الكآبة رفيقتك في هذه الجولة والتنقل من مدينة إلى أخرى، إذ نادرا ما ترى أحدَهم يضحك، نادرا ما ترى ابتسامة على وجهٍ ما، نادرا ما يقابلك أحدٌ بلطف، الجميع متجهّم وغاضب، ويبدو كما لو أنه مستعدّ للعراك لأتفه سبب؛ وهو ما سينتقل إليك، شئت أم أبيت، سترى نفسَك مكتئبا بلا سبب مباشر، وسترى أنك تفكّر بكل ما هو سلبي في مجريات يومياتك، بدلا من أن ترى إيجابية ما تفعله، أو تتمكّن من الاستمتاع قليلا بالتعرّف إلى مدن جديدة وثقافات جديدة وبشر جدد يضيفون لك الكثير من المعرفة الفكرية والإنسانية. ذلك أن الوضع العام كله عكس ذلك تماما. الفرنسيون غاضبون من حكومتهم، ويواصلون التصعيد، والحكومة غير مكترثةٍ بكل ما يحدُث، وهو ما يسبّب للشعب مزيدا من الغضب ومزيدا من الإحساس بالتهميش، ما يغذّي مشاعر الكآبة التي يراكم عليها الطقس البارد والشمس المختفية دائما خلف الغيوم السوداء الكثير.
السؤال الذي يلحّ علي هو عن الشعر والفن في ظروفٍ كهذه، وعن الجدوى من كل أنواع الفنون، حين تكون الأوضاع العامة كما هي عليه الآن. بدايةً، يبدو من البديهيات الحديث أن الأساطير هي الأساس الذي استندت إليه كل الحضارات البشرية وكل الأديان السماوية، والأساطير ليست سوى فنّ محض قائم على مخيلة عظيمة تستخدم الحواسّ البشرية لتتجلى وتبهر. الفن هو الوجدان الجمالي الذي تشكّلت بسببه القيم والمثل الإنسانية العليا، وهو المنطقة التي ينبع منها الإبداع الذي كوّن الحضارات القديمة التي بقيت لنا عبر المعمار وعبر الرسوم وعبر المدوّنات الشعرية وعبر اللغة؛ كما كون الحضارات الحديثة القائمة على التقدّم التقني والعلمي. ولكن، في لحظة ما، يبدو أن ذلك كله لا معنى له ولا دور في الحياة اليومية، حين تطحن السياسات الاقتصادية شعوبها. في هذه الأوقات، قد لا تبدو الفنون أولوية، بكل أنواعها، وقد لا يكترث لها أحدٌ إن حدثت أم لم تحدُث. في هذه الأوقات، تبرز قيمة المهن التحتية، وتبرز أهميتها في تسهيل الحياة وتسيير شؤونها.
في فرنسا حاليا، هناك إضرابات يقوم بها عمال النظافة الذين توقفوا عن العمل منذ أكثر من عشرة أيام، سوف ترى أكوام الزبالة الملقاة هنا وهناك كيفما مشيت في المدن الفرنسية الكبرى، ما يُنذر بكارثة صحية كبيرة، إن لم تجد الحكومة طريقة للتراجع عن قانون التقاعد الذي قامت قيامة الفرنسيين بسببه. مثل عمال النظافة، يضرب موظفو السكك الحديدية والمواصلات العامة والبريد، ما يعطّل الحياة بشكل فعلي لا نظري، والأمر مرشّح للتطوّر، حيث من المتوقع إضراب عمّال المصانع والمؤسّسات الخدمية وموظفي الحكومة، ما يعني أن شللا كاملا سوف يصيب فرنسا وسوف يعيق حياة الفرنسيين، وسينعكس على كل شيء في يومياتهم.
في هذا الوضع، يمكن لمن هي مثلي أن تتساءل: ما الذي سيحدُث لو أضرب الفنانون الفرنسيون عن تقديم عروضهم؟ لو أغلقت المسارح والسينمات، لأن موظفيها يشاركون في الإضراب؟ لو توقف الكتّاب عن الكتابة والعازفون عن العزف والمغنّون عن الغناء والرسّامون عن الرسم والمخرجون عن الإخراج والمصوّرون عن التصوير والممثلون عن التمثيل؟ ماذا سيحدُث لو أضرب كل هؤلاء عن العمل؟ في الحقيقة، لا شيء يمكنه أن يوقف الحياة، وهؤلاء هم من يضربون، سيستمر النظام العام بالعمل كما كان، بينما ستحدُث فيه بلبلة، حين يضرب أصحاب المهن الخدمية. لكن هل يعني ذلك أن لا أهمية لمن يعملون في الفنون؟ بالطبع ليس كذلك، فلو استمرّ النظام العام بالعمل كاملا وأضرب أصحاب المهن الفنية، لشعر الناسُ بأن شيئا ما ينقصهم، وأن حياتهم جافّة ولا معنى لها، وأن ثمّة فجوة في أرواحهم تحتاج إلى الجمال كي تسدّ، والجمال صنع الفنون التي لولاها لما تطوّرت حياة البشر.