ماذا يحدُث في ليبيا وإلى أين تتّجه؟
استبشر الليبيون خيراً، عندما نالت حكومة الوحدة الوطنية المنبثقة من ملتقى الحوار الليبي ثقة البرلمان بالإجماع. وتوقع كثيرون أنّ ذلك سينهي سنوات من الفوضى والعنف، معتبرين ذلك التناغم بين الحكومة ومجلس النواب فرصةً كبيرةً تتاح لأول مرة لإيجاد حل للصراع الدائر في البلاد. وعلقت آمال كبيرة على هذا الاتفاق، ولا سيما أن أزمات وعقبات كثيرة واجهت حكومة فايز السراج، كان مردّها عجز الأخيرة عن نيل ثقة البرلمان، وممارستها أعمالها بوزراء مفوّضين بعيداً عن سلطة البرلمان ومراقبته.
بيد أنّ شهر العسل بين الحكومة والبرلمان لم يدم طويلاً، إذ يبدو أن الشرخ الذي أحدثه الهجوم على طرابلس أعمق من أن يلتئم بمجرد حصول الحكومة على ثقة البرلمان، فضلاً عن تورّط أطرافٍ إقليميةٍ ودوليةٍ كثيرة في زيادة تعقد المشهد الليبي، الأمر الذي أفضى إلى عراقيل ومصاعب كثيرة واجهت أداء الحكومة منذ الشهر الأول لمزاولة أعمالها. بدأت بوادر هذا الخلاف بمنع هبوط طائرة الفريق الأمني والإداري التابع لرئيس الحكومة، عبد الحميد الدبيبة، في مطار بنينة، التي كانت تقلهم للتمهيد لعقد اجتماع الحكومة في بنغازي، تحت مبرّر أن الطائرة كانت تقلّ عناصر من الكتائب المسلحة في طرابلس، في الوقت الذي سبق عملية المنع خروج مجموعات في وسط بنغازي، وأحرقوا صور الدبيبة، متهمين إياه بالتحالف مع الإخوان المسلمين وتركيا.
حاولت الحكومة تجاوز الحادثة، لتبدأ رحلات ماراثونية بين طرابلس، مقرّ الحكومة، وطبرق مقرّ مجلس النواب، لإقناع المجلس باعتماد الميزانية المقترحة، وقامت بتعديلاتٍ كثيرة طلبها النواب في ست جلسات، ولكنها لم تفلح في ذلك، وما زالت تمارس أعمالها من دون ميزانية معتمدة، على الرغم من مضي أكثر من ثمانية أشهر من السنة المالية في ليبيا، التي تبدأ في يناير/ كانون الثاني من كل سنة، وأكثر من ستة أشهر من تسلم حكومة الوحدة الوطنية مهامها. قد تباينت الحجج التي ساقها مجلس النواب بشأن رفضه اعتماد قانون الميزانية، متهماً الحكومة بأنها لم توضح في مشروع الميزانية أهدافها على شكل برامج ومشاريع واضحة، وأنها (الحكومة) أدرجت جهاتٍ في مشروع الميزانية، لا تتبع مجلس الوزراء: جهاز الردع، وقوة مكافحة الإرهاب، وجهاز دعم الاستقرار، ومصلحة التخطيط العمراني، غير أن تسريباتٍ كثيرة ذكرت أن السبب الرئيسي في عدم الموافقة، عدم تضمين قوات خليفة حفتر في بنود الميزانية، الأمر الذي أكده رئيس البرلمان، عقيلة صالح، في لقائه حفتر في 16 يوليو/ تموز الماضي، وعاد ليؤكّده أخيراً في قوله إن "من الأسباب التي دفعت النواب إلى عدم الموافقة على قانون الميزانية عدم تضمينها مبالغ مقدّرة ومحترمة، ليستطيع الجيش أن ينفّذ مهامه".
خلاف واختلاف ظاهره تحسين ظروف المواطن الليبي، والحد من معاناته، وعدم السماح بتقسيم البلد، وباطنه صراع على السلطة وعلى النفوذ
ومن الجدير بالذكر أن تدخل المجلس الرئاسي، ومطالبته "الجميع بتحمّل مسؤولياتهم أمام الليبيين"، ودعوته إلى "اتخاذ الإجراءات الكفيلة باعتماد الميزانية للوفاء بالالتزامات التي تعهدت بها الحكومة أمام المواطنين لسد احتياجاتهم"، لم تُفضِ إلى تقريب وجهات النظر، ما دعا رئيس الحكومة إلى التحذير من أن عدم اعتماد الميزانية والمماطلة في الموافقة عليها قد يضطرّه إلى إعلان الفشل في تنفيذ وعوده التي قطعها على نفسه، والتي لا يمكن الإيفاء بها إلا بتوافر الموارد المالية اللازمة.
وعلى كل حال، لم يعد الصراع بين الحكومة والبرلمان خافياً، فكل طرفٍ يلقي باللوم على الطرف الآخر في تعثر العملية السياسية. ويتضح ذلك الصراع من خلال الحوارات واللقاءات الصحافية والمرئية التي قام بها كل من رئيسي الحكومة ومجلس النواب، ففي كلمة إلى الشعب، بثّت أخيراً، تحدّث الدبيبة إلى الشعب عن قضايا عديدة، في مقدمها اتهامه مجلس النواب "بعرقلة عمل الحكومة بشكل مستمر"، وإن "كل أسباب التعطيل واهية وغير صحيحة"، مضيفاً أنه سيكون مضطرّاً إلى البحث عن مصادر تمويل بديلة، تمكّن الحكومة من ممارسة أعمالها، في إشارة إلى عرقلة مجلس النواب إقرار الميزانية. أما عقيلة صالح، فقد كثّف من ظهوره الإعلامي أخيراً، واتهم الحكومة، في كل مرة، بالتقصير في أعمالها المنوطة بها، الأمر الذي قد يعرّضها لسحب الثقة من مجلس النواب. وقال عقيلة إنه ليس لأغلب المساءلات الواردة من النواب علاقة بالجانب المالي، ومعظمها تركز على توحيد المؤسسات، الذي لا يتطلّب سوى إرادة وقرارات صارمة، فضلاً عن انتقاداتٍ بشأن تعزيز الحكومة للمركزية، بدلاً من العمل على تفتيتها. وبخصوص الميزانية وعدم اعتمادها، دافع عقيلة عن ذلك قائلاً: "هناك ارتباك وتخبط من الحكومة في اقتراحها للميزانية، والدليل تلك التعديلات المستمرّة والمتكرّرة التي تُجرى على بنود الميزانية، وإصرار الحكومة على إدراج بند التنمية. على الرغم من أن عمر الحكومة لا يسمح لها بتنفيذ أي برامج طويلة الأجل، وكان من المفترض تركيزها على الأمور المتعلقة بحياة المواطن واحتياجاته الضرورية". مضيفاً أنّه قد سُمح للحكومة بالإنفاق بالقانون الذي يعطي الحق لها بالإنفاق بحسب الميزانية السابقة كل شهر، حتى يتم الاتفاق على الميزانية الجديدة.
العلاقة بين الحكومة ومجلس النواب لن تعود إلى ما كانت عليه من تفاهم عند منح الثقة
والخلاصة أن العلاقة بين الحكومة ومجلس النواب لن تعود إلى ما كانت عليه من تفاهم عند منح الثقة، خصوصاً أن كل طرف حاول التمترس حول تحالفاتٍ تعزّز من موقفه، فتحالفَ الدبيبة مع محافظ ليبيا المركزي، الصديق الكبير، ورئيس ديوان المحاسبة، خالد شكشك، وبهذا يكون قد ضمن الجانبين، المالي والرقابي، وهما ما يحتاجه في هذه الظروف. أما عقيلة صالح فأدرك، أخيراً، أنه يجب أن ينهي خلافاته مع خليفة حفتر، ليضمن دعماً معتبراً من المنطقة الشرقية.
خلاف واختلاف ظاهره تحسين ظروف المواطن الليبي، والحد من معاناته، وعدم السماح بتقسيم البلد، وباطنه صراع على السلطة وعلى النفوذ، حتى وإن أدّى ذلك إلى تفتيت البلاد وتقسيمها فيما بينهم. وما بين هذا وذلك، يخوض جزء كبير من الليبيين معركة بقاء يومية في وجه الأزمات اللامتناهية، تصوّرها مشاهد غير مسبوقة على شكل تسجيلاتٍ مصوّرة، في أكثر من مكان، لمواطنين ينتظرون في طوابير طويلة أمام المصارف، ومحطات الوقود، يكابدون لتأمين قوت يومهم، يفاضلون في أولوياتهم، يعيشون بدون كهرباء ساعات طويلة، على الرغم من إثقال الخزينة بمليارات بذريعة تأمين الكهرباء. أما من أصيب بكورونا، فأقصى أمانيه الظفر بأسطوانة أكسجين عجزت المستشفيات الحكومية عن توفيرها، على الرغم من المبالغ الخيالية التي صُرفَت لهذا الغرض. وأصبحت وسائل التواصل تعجّ بالنداءات اليائسة من أشخاصٍ يبحثون عن أسرّة وأدوية وأسطوانات أكسجين لمرضاهم، ولسان حال الجميع يردّد سؤالاً لا يعرف أحدٌ الإجابة عنه: ماذا يحدث في ليبيا، وإلى أين تسير؟