مارادونا عظيم .. ولكن
وصفت وسائل الإعلام العالمية دييغو مارادونا بالأفضل والأكثر مهارة، واعتبرته "الأعظم" في تاريخ كرة القدم، وهو لا شك عظيم، بل واستثنائي. لكنه يظل "واحداً" من عظماء لاعبي كرة القدم على مرّ العصور، وليس وحده "الأعظم" بالمطلق.
الحكم الجازم بأن مارادونا هو الأفضل في التاريخ غير دقيق، ومجحف بحق عظماء آخرين في كرة القدم. فقد جاء مارادونا بعد بوشكاش وبيليه وكرويف وبكنباور وبلاتيني وسقراط وزيكو، وكان كل منهم عظيماً. بل إن بيليه وُصف هو أيضاً بالأعظم منذ عقود. وبعد مارادونا، جاء رونالدو، وزين الدين زيدان، وفرانشيسكو توتي، وروبرتو كارلوس، وجورج ويا، وتيري هنري، ثم رونالدينيو، وليو ميسي، وأنييستا، وإبراهيموفيتش.
المقارنة المطلقة غير عادلة، حيث تختلف السياقات المحيطة بلعبة كرة القدم من بلد إلى آخر، فقد عرف لاعبو الكرة في أوروبا وأميركا الجنوبية الاحتراف قبل نظرائهم في آسيا وأفريقيا بأكثر من عقدين. وبالتزامن مع الاحتراف، كان تحوّل كرة القدم إلى صناعة ونشاط اقتصادي متكامل، لا مجرّد رياضة وهواية، وهو تحوّل متعثر في الدول النامية، خصوصاً في أفريقيا التي أخرجت مواهب فذّة، على الرغم من بدائية أوضاعها الرياضية والحياتية، غير أن العالم لا يعرف من تلك المواهب سوى من احترف خارج القارّة السمراء، خصوصاً في الدوريات الأوروبية.
عرف العالم من يوصفون بالعظماء في كرة القدم، مع انتشار وسائل الإعلام وثورة الاتصالات. بينما شهدت عهود سابقة لاعبين ليسوا أقل عظمة أو استثنائية. ظهروا وتألقوا ثم اختفوا، بعيداً عن أعين العالم. عدا قلةٍ أدركتها الشاشات والملاعب العالمية قبل الاعتزال. منهم الكاميروني روجيه ميلا الذي لعب في كأس العالم 1990، وقد تجاوز 40 عاماً، وتألق وأحرز أهدافاً. بينما كان أكثر إبداعاً ومهارة ولياقة، وهو مغمور يقود منتخب بلاده سنوات طويلة في أفريقيا. أما محمود الخطيب، أيقونة الكرة العربية، أول مصري يحصد لقب أحسن لاعب في أفريقيا، فقد أمضى معظم حياته في الملاعب، متنقلاً بين إصابة وأخرى، بسبب عنف المدافعين وعجزهم أمام مهاراته الاستثنائية، فلم يذهب بمصر إلى كأس العالم، ولم تكن بطولة العالم للأندية أو جائزة أحسن لاعب بالعالم قد ظهرت بعد، وهو أسطورة كروية لم تتكرّر في مصر والوطن العربي وأفريقيا، لكن ليس في العالم.
يتطلب الارتقاء إلى "العظمة" إنجازاتٍ ومواصفاتٍ تتجاوز الإبداع الكروي، فالعظمة صنو الشمول واختراق حدود التخصص والمكان والزمان. لذلك، لا ترتكز عظمة مارادونا على إبداعٍ أو إنجازٍ في كرة القدم فقط، فهو لم يحقق إنجازاً رياضياً ضخماً سوى قيادة منتخب بلاده إلى الفوز بكأس العالم 1986. وإنما يكتسب مارادونا عظمته من مواقف يذكرها العالم له، خصوصاً مواقفه السياسية المناهضة لاحتلال فلسطين وللإمبريالية الغربية، وانتقاده ما كان يعتبره نفاقاً وشعارات يرددها بعضهم ولا يطبقونها، فحين زار الفاتيكان خرج منه يقول: "لقد رأيت سقفاً مطلياً بالذهب، فيما يدعو البابا لمساعدة الفقراء. تباً لكم، بيعوا هذه الأسقف".
كما مارادونا، زار ميسي الذي يعتبره بعضهم أعلى مهارة في الكرة من مارادونا إسرائيل والتقط صوراً أمام حائط المبكى. وعلى غرار مارادونا، لمحمد أبو تريكة شعبية طاغية ومكانة كبيرة في العالم العربي وأفريقيا، ليس فقط لموهبته الاستثنائية، وإنما أيضاً لمواقفه السياسية، على الرغم من رمزيتها وبساطتها. لكنه لم يحترف في أوروبا، ولم يفز بكأس العالم، ولم يمر بتحولات درامية في حياته كمارادونا. "الأعظم" ليس فقط بالتميز في مجاله أو مهنته، بل في حياته ككل. ولا يمكن قصر اللقب على شخصٍ واحدٍ في زمن وسياق جعلاه مختلفاً بالضرورة عن آخرين. ربما لو ظهروا في السياقات والأزمنة نفسها، لربما صاروا عظماء مثله أو أكثر.