ماكرون إلى الجزائر: رهانات الطّرفين ومصالحهما
يزور الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الجزائر، نهاية شهر أغسطس/ آب الجاري، في ثاني تنقلّ له إلى الجزائر منذ تولّيه الرّئاسة في فرنسا، قي 2017، ولكن في ظروفٍ تختلف تماما عن التي قادته إلى العاصمة الجزائرية في الولاية الرابعة للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، بل وفي ظل ظروف إقليمية ودُولية مختلفة تمام الاختلاف، ليكون السؤال المحوري بشأن الزيارة المقبلة متعلقاً برهانات الزيارة وأهدافها، سواء من الجانب الجزائري أو من الجانب الفرنسي.
تأتي الزيارة في ظروف إقليمية ودولية معقّدة ومتشابكة، حيث يواجه العالم أربع إشكاليات حيويّة، إعادة تشكيل خريطة التّحالفات العالمية، أزمة الطّاقة وأزمة الغذاء، إضافة إلى التّغيّرات المناخية والتداعيات على البشرية جمعاء، وخصوصا مع ما شهده هذا الصيف من جفاف، حرائق مهولة وسيول لم يعهد العالم مثلها حجماً، وموقعاً وتوقيتاً.
على خلفية هذه الإشكالات، تأتي زيارة ماكرون إلى الجزائر، وكل من الطرفين يعاني من مشكلات مختلفة، كما أنّ لكل منهما رهانات وأهداف/ مصالح يسعى إلى تحقيقها مختلفة، بل ومتناقضة، في أحيان كثيرة، بحيث أنّ الزّيارة قد تنجح في فكّ خيوط بعضها، تحريك بعضها الآخر، ولكن بعض الملفاّت تبقى عصيةً على التّوافق، لأنّها تقع في تقاطع تلك الرّهانات والمصالح.
هناك ملاحظة مهمة جدا يجب إيرادها، هنا، أن ظروف زيارة الرئيس ماكرون المقبلة تأتي في فترة إعادة الجزائر تشكيل إدراكات دورها، سواء على المستوى الاستراتيجي (التحالفات والشراكات) أو الاقتصادي، من خلال التموقع للحصول على أقصى المصالح من تحوّل الطاقة من مادّة ريعية إلى مادّة استراتيجية (الغاز والنفط، على حد سواء)، ما يعني أنّ معطيات الزيارة، هذه المرّة، تختلف عن التي جاء ماكرون بها، في المرّة السّابقة، منتشياً بدور محوري في فرنسا في المنطقة، وفي القارّة الإفريقية على وجه خاصّ، وفي ظرف كانت فيه الجزائر تمرّ بفراغ سياسي، جرّاء مرض الرّئيس السّابق وعدم توافق داخلي على أكثر من صعيد في الدائرة الضيقة لصنع القرار في الجزائر.
سبق للجزائر إرسال إشارات إلى فرنسا بأنّ دور الجزائر الجديد سيكون مغايراً لما كان عليه
بالنسبة لرهانات فرنسا ومصالحها من الزّيارة، يمكن تلخيصها في أربع نقاط أساسية، يريد ماكرون تحقيقهـا وبسرعة، لأنّ ما ينتظره في فرنسا، خصوصاً مع معطيات التوازن الدّاخلي داخل المؤسّسات السياسية، ملحٌّ على أجندته، ومؤثر، على المدى المنظور، على دوره أوروبياً ودولياً، استراتيجياً واقتصادياً.
يأتي ماكرون إلى الجزائر، وعينه، بداية على تصحيح الأخطاء التي أدّت إلى تراجع مكانته في المغرب العربي، وفي منطقة الساحل وغرب أفريقيا، على وجه الخصوص، حيث لم تنجح باريس في تجسيد أهدافها من خلال التدخل في مالي، كما لم تحقق استمرارية في دورها المؤثر على الوضع الاستراتيجي في الساحل، بل وسارع دولٌ كثيرة إلى إظهار العداوة لفرنسا، خاصة في غرب القارة الإفريقية مما يعني أن باريس تبحث على تجسيد وضع جديد تبرز فيه تصحيحاً لتلك الأخطاء التي قال المحللون إن باريس ارتكبتها من واقع استمرار إدراك النخبة الفرنسية دورا ما في خلفية التاريخ، التأثير الاقتصادي والثقافي.
يدرك ماكرون، في ثاني ملفٍّ ضاغط في زيارته الجزائر، أنّ استمرار الحديث عن ملفّات الأمن، الهجرة غير الشّرعية والتنقّل (التأشيرات) لا يمكن أن يكون مفيداً في حل المعضلات الفرنسية في المنطقة، وبالتالي، سيسارع الرئيس الفرنسي إلى إبراز نفهمه انتقادات سبق للجزائر والمغرب وتونس أن رفعت بها الصوت، كل دولة وحدها للأسف، حتى تفهم باريس أنّ زمن الضغط من خلال هذه الملفّات ولّى، وأنّ الشراكة الحقيقية في المستقبل، وليس في الاستقطاب، كما اعتادت فرنسا أن تفعل وتتحرّك على أساسه.
يأتي ماكرون إلى الجزائر، وعينه بداية على تصحيح الأخطاء التي أدّت إلى تراجع مكانته في المغرب العربي
سيكون الملف الثالث في جعبة ماكرون، حتماً، تصالح الذاكرة، والذي تخلفت فيه فرنسا عن كثير من وعودها فيه، بل تحاول، بخلفية التوازنات الجديدة المؤسسية، في أعقاب الانتخابات التشريعية في يناير/ كانون الثاني الماضي، تأجيل البت في رمزية ما تنتظره الجزائر، خصوصاً في مسار ثلاثية الاعتراف، الاعتذار ثم التعويض، بتدرجية جرى الاتفاق على خطة للعمل وصولاً إليها، ولكن مع مماطلةٍ من باريس، لم يتعدّ مجرد اعتراف بمسؤولية الدولة الفرنسية عن مقتل المناضل الشيوعي موريس أودان والمحامي علي منجلي، إضافة إلى إعادة جماجم أبطال المقاومة الشعبية للاستيطان الفرنسي في القرن التاسع عشر.
قد يثير الرّئيس الفرنسي، في ظلّ تزاحم نقاط جدول أعمال زيارته وأهمية ملفّاتها (الاستراتيجية، الأمن، الطاقة) إشكالية اللغة الفرنسية، وتراجع مكانتها لصالح اللغة الإنكليزية، وهو ملف ضاغط له دلالات علمية وتربوية ورمزية، ترى فرنسا أنه إشارة إلى تحوّل بوصلة المغرب العربي، تدريجياً، نحو التخلي عن الإرث اللغوي لفرنسا، وبالتالي، تأثيرها المحتمل في النُّخب المغاربية.
ومن الجانب الجزائري، تأتي زيارة الرئيس ماكرون في ظل إعادة تشكيل خريطة تحالفات/ شراكات الجزائر، بعد صمت الاتحاد الأوروبي على الاستجابة لمطالب بضرورة مراجعة اتفاقية الشراكة، إضافة إلى مضمون بعض الشّراكات الثنائية التي عملت الجزائر على عقدها، ثمّ شاهدت تنصُّل بعض الأطراف عنها، على غرار إسبانيا، في إطار عمل لم يكن استراتيجياً، بدليل أن المعطيات كانت كلها تؤكّد تعرّض العالم لأزمة طاقةٍ مع اندلاع الحرب في أوكرانيا احتمال استخدام روسيا للغاز أداة للحرب، إمداداً أو حظراً، على زبائنه، ما يعطي للجزائر الفرصة لتحويل الغاز والطّاقة، عموماً، من سلعة ريعية إلى سلاح استراتيجي، تبني على أساسه تحالفاتها وشراكاتها وفرنسا من بين تلك الوجهات التي ترى الجزائر أنها يجب أن تفهم ذلك كله، وإسماع ماكرون بذلك في زيارته لن يكون مفاجأة، لأن الإعلام الفرنسي سبق أن أشار إلى العقيدة الطاقوية الجزائرية وتداعياتها على إعادة تشكيل خريطة التّحالفات والشّراكات.
الإعلام الفرنسي سبق أن أشار إلى العقيدة الطاقوية الجزائرية وتداعياتها على إعادة تشكيل خريطة التحالفات والشراكات
سبق للجزائر إرسال إشارات إلى فرنسا بأن دور الجزائر الجديد سيكون مغايراً لما كان عليه، وقد حدث ذلك من خلال مضمون الشراكة الجديدة مع إيطاليا أو توقف العمل بأنبوب الغاز الذي يمرّ عبر المغرب، والذي كانت فرنسا ترى فيه مورداً طاقوياً لاستثماراتها في المغرب (حوالي 300 شركة)، ما يعني أنّ ماكرون تفطن للمقابل الذي على باريس منحه، الآن، للجزائر، حتّى تكون الخريطة الجديدة للشّراكات بالنّسبة للجزائر غير مضرّة بالمصالح الفرنسية أو على الأقل يتم إدماج مصالح فرنسا في إطار تلك الخريطة الجديدة، ولو من خلال تحويل إيطاليا إلى مورّد لأوروبا بالطّاقة الجزائرية بعد قرار الجزائر باستخدام كلّ طاقاتها للرفع من حجم الغاز الذي تورده لروما، على المدى المنظور.
للجزائر دور آخر حيوي تنظر إليه باريس، وتريد للجزائر أن تجسّد في المدى المنظور، وهو استخدام النفوذ الجزائري للتخفيف من التغيرات العميقة في ادراكات الأفارقة (الساحل وغرب أفريقيا) لعلاقاتهم مع باريس استراتيجياً واقتصادياً، وبخاصة أنّ ذلك يتزامن مع انتهاء مرحلة إجلاء فرنسا قواتها من مالي وبروز دور متنامٍ لروسيا في المنطقة، بما يعني أنّ الدور الفرنسي لن يتراجع فقط، بل يسير نحو الانعدام. وهنا يأتي دور الجزائر للعب دور الوسيط مع روسيا، من جهة، والدول الأفريقية، من جهة أخرى، تحقيقاً لهدف الحفاظ على مكانة ما لفرنسا، في المنطقة، لكن بمضامين أخرى غير التي كانت فرنسا، معيارياً، تستخدمها لإدامة وجودها على المستويين الاستراتيجي والاقتصادي.
في النهاية، هل تتحقّق رهانات فرنسا ومصالحها من هذه الزيارة، أم أنّ الجزائر ستعيد، من وحي الدور الجديد، فتح سلّة الإشكالات المعقّدة في علاقاتها مع فرنسا، وتفتح مرّة واحدة لتحقيق مصالح تنتظر أن تتجسّد منذ عقود، وحان لها أن تتحقّق الآن مع إعادة تشكيل العالم، بأسره، لتحالفاته وشراكاته؟ ذلك هو السؤال الذي يبقى مطروحاً إلى غاية مرور نهاية الزيارة ونتائجها المنتظرة، هنا وهناك، على ضفتي المتوسّط.