ما الذي يوتّر العلاقات بين الجزائر وفرنسا؟
يبدو أن العلاقات بين الجزائر وفرنسا تمرّ بأسوأ مراحلها، على خلفية التصريحات الغاضبة والمستفزة، التي أطلقها مسؤولون فرنسيون، إثر إصدار الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، مرسوماً يقضي بأداء النشيد الوطني الجزائري بشكل كامل في المناسبات الرسمية، ما يعني التأكيد على إدراج الفقرة الثالثة منه، التي تعتبرها فرنسا مرفوضة، لأنها تقول:
"يا فرنسا قد مضى وقت العتاب/ وطويناه كما يُطوى الكتاب
يا فرنسا إن ذا يوم الحساب/ فاستعدّي وخذي منّا الجواب
إنّ في ثورتنا فصل الخطاب/ وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا
الفقرة مختلف عليها وإشكالية، وسبق أن جرى التغاضي عنها، أو بالأحرى حذفت بشكل غير معلن، خصوصاً في عهدي الشاذلي بن جديد وعبد العزيز بوتفليقة، كما أن أصواتاً جزائرية طالبت، في أكثر من مناسبة، بغض النظر عنها أو حذفها، لأنها تتضمّن اسم فرنسا، بوصفها دولة أجنبية يتردّد اسمها في النشيد الوطني للجزائر، وإنْ يتوعدها.
وعلى الرغم من الجدل الواسع الذي أثاره المرسوم الرئاسي، فإن ساسة جزائريين اعتبروا أنه أوجد مسافة لتحجيم الجانب الفرنسي، ووضعه في الزاوية، وشكّل بداية لتغيير جذري في التعامل معه. لكنه، في المقابل، استدعى ردّات فعل غاضبة من مسؤولين فرنسيين، إذ عبّرت وزيرة الخارجية، كاثرين كولونا، عن استيائها من إعادة ما اعتبرته "قد تجاوزه الزمن". وردّ عليها نظيرها الجزائري، أحمد عطاف، ساخراً أن "بعض السياسيين والأحزاب في فرنسا أصبحوا يستغلون اسم الجزائر لأغراض سياسية". وقبل ذلك، دعا رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي، جيرارد لاريشر، إلى إعادة النظر في الاتفاقية الفرنسية الجزائرية لعام 1968، بشأن تسهيل دخول الجزائريين فرنسا، وإقامتهم وتوظيفهم، بذريعة أن الاتفاقية وقّعت عندما كان عدد سكان الجزائر لا يتجاوز 10 ملايين، وكانت فرنسا آنذاك بحاجة إلى اليد العاملة الجزائرية، وتغيرت الأوضاع كثيراً في المرحلة الراهنة. في المقابل، قال الرئيس تبّون، في أكثر من مرة، إن إلغاء الاتفاقية سيكون بمثابة إعلان حرب على بلاده، نظراً إلى أهميتها بالنسبة للجزائر.
حمولات الذاكرة التاريخية للجزائريين حيال الفترة الاستعمارية تضغط بقوة عليهم، إضافة إلى مسائل التدخّل في شؤونهم الداخلية
ليس الجدل حول النشيد الوطني الجزائري العامل الوحيد في تردّي العلاقات الجزائرية الفرنسية، فتاريخها حافل بالأزمات والتوترات، على الرغم من أن الآونة الأخيرة حملت معها مراهنات على تغيرات تخفّف من وطأة حمولة الماضي، حيث وعد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ببناء علاقات سلمية مع الجزائر تُنهي التوتر، وتحقق نوعاً من الثبات، واعتبر في زيارته الجزائر في فبراير/ شباط 2017، أن "استعمار فرنسا للجزائر، الذي استمر 132 عاماً، كان جريمة ضد الإنسانية"، الأمر الذي رحّب به الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، الذي راهن على أن ماكرون سيغيّر كثيراً في سياسة فرنسا تجاه الجزائر، وبما يمكّن من صناعة تاريخ مشترك معها. وعاد التوتر إلى علاقات البلدين، منذ تولي تبون في ديسمبر/ كانون الأول 2019 الرئاسة، في ظل المورث التاريخي والاستعماري بينهما، والاعتبارات الأمنية والتوازنات الاستراتيجية، وخصوصاً مع تصريح الرئيس الفرنسي المستفز، أن لا وجود لأمة اسمها الجزائر قبل الاحتلال الفرنسي، وأن الجزائر قامت بعد استقلالها عام 1962 على نظام "ريع الذاكرة" الذي كرّسه "النظام السياسي العسكري" فيها. ثم سعت السلطات الفرنسية إلى احتواء الأزمة وتداعياتها، حيث أصدر قصر الإليزيه بياناً اعتبر فيه أن "الرئيس إيمانويل ماكرون يأسف للخلافات، وسوء الفهم مع الجزائر"، وأكد أنه يكنّ "أكبر قدر من الاحترام للأمة الجزائرية وتاريخها". بعد ذلك، تمكّن مسؤولو البلدين من إنهاء مرحلة جفاء دامت أشهراً عديدة، عبر التوصل إلى أرضية وفاق جديدة، سمحت بأن يزور الرئيس ماكرون الجزائر في أغسطس/ آب 2022. وجرى الاتفاق خلالها على تعزيز التبادلات رفيعة المستوى بين البلدين، وفق عقيدة جديدة قوامها الندّية، واحترام سيادة الدولتين، والنأي عن سلوكيات التدخّل في الشؤون الداخلية. وبالفعل، استؤنفت العلاقات القنصلية بين الجزائر وفرنسا في 12 ديسمبر/ كانون الأول 2022، وعاد منح التأشيرات إلى الجزائريين إلى معدّله الطبيعي، فضلاً عن عقد اجتماعات ولقاءات بين رجال أعمال ومستثمرين من البلدين، في مجالات الطاقة، والتعليم، والرياضة. لكن التوتر سرعان ما عاد، حيث استدعت الجزائر سفيرها في باريس للتشاور، على خلفية قضية المعارضة السياسية، أميرة بوراوي، الحاملة الجنسية الفرنسية أيضاً، والتي تمكّنت من عبور الحدود الجزائرية إلى تونس، بطريقة غير قانونية، قبل أن تتمكّن من السفر إلى فرنسا. بعدها بقيت العلاقات محلّ شدّ وجذب، قبل أن تُصدر الرئاسة الجزائرية في 23 إبريل/ نيسان الماضي بياناً أعلنت فيه عن زيارة رسمية ستقود تبّون إلى باريس منتصف الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، لكن تبون ذهب إلى موسكو بدلاً من باريس.
لم تكن العلاقات الجزائرية الفرنسية يوماً طبيعية، ولم تحكمها مبادئ وأعراف الدبلوماسية التقليدية بين الدول
لم تكن العلاقات الجزائرية الفرنسية يوماً طبيعية، ولم تحكمها مبادئ (وأعراف) الدبلوماسية التقليدية بين الدول. كما أن حمولات الذاكرة التاريخية للجزائريين حيال الفترة الاستعمارية تضغط بقوة عليهم، إضافة إلى مسائل التدخّل في شؤونهم الداخلية، وما تعتبره الأوساط السياسية الجزائرية دعماً فرنسياً لنشاطات معادية للجزائر من الأراضي الفرنسية، والدعم الفرنسي للمغرب فيما يتعلق بقضية الصحراء، والخلافات في الملفات الإقليمية. والأهم التموقع الجيوسياسي لكل من الدولتين، في محورين متعارضين، الروسي الصيني من جهة الجزائر، والأميركي الأوروبي من جهة فرنسا.
أبرز المؤشّرات على زيادة حدّة التوتر أن جولة وزير الخارجية الجزائري، أحمد عطاف، الأولى إلى أوروبا، أخيراً، لم تشمل باريس، الأمر الذي يدخل في سياق استكمال توجّه الساسة الجزائريين باتجاه البحث عن عقد شراكات سياسية واقتصادية مع دول أخرى، غير فرنسا، سواء في أوروبا، مثل إيطاليا والبرتغال، أو في الشرق، مثل روسيا والصين وتركيا. وفي مطلق الأحوال، لن تصل الأمور إلى حدّ القطيعة بين البلدين، لأنها مكلفة، خصوصاً بالنسبة للجزائر التي تعاني من إشكالات اقتصادية ضاغطة، وبالتالي، أضحت الشراكة التي أعلن الرئيسان تبّون وماكرون عنها، صيف العام الماضي في الجزائر، في وضع حرج، وبحكم المتوقفة والمجمدة.