ما بعد كأس الخليج
ليس جديداً التداخل بين السياسة والرياضة بمختلف أشكالها. وسواء كانت الأجواء السياسية صافية أو ملبّدة، تتأثر الرياضة وتخيم عليها تلك الأجواء بوضوح. والأمثلة والشواهد على ذلك مستقرّة منذ أكثر من نصف قرن، حين مثلت مباراة بين الصين والولايات المتحدة في تنس الطاولة بداية لتواصل سياسي بين البلدين، عرف لاحقاً باسم دبلوماسية البينغ بونغ. وفي كأس العالم في قطر أخيرا، كانت مباراة إيران والولايات المتحدة أقرب إلى مبارزة سياسية وإعلامية، وقد حفلت، أجواءً وأداءً ونتيجةً، بدلالات رمزية للندّية والمناوأة بين الدولتين. ولا حاجة إلى التذكير بالعوائد الضخمة والمتنوّعة التي حققتها قطر من استضافة بطولة كأس العالم بتحصيل رصيد إضافي لقوتها الناعمة. ولعل النجاح الباهر في تنظيم كأس العالم لكرة القدم هو ما دفع دولاً أخرى إلى المسارعة باستضافة مباريات كبرى واستجلاب نجوم عالميين. ويظل الحدث ذو المدلولات الشاملة الأبرز أخيرا بطولة كأس الخليج لكرة القدم، التي اختتمت مساء الخميس الماضي في العراق. وتجسّد المسابقة التي بدأ تنظيمها قبل أكثر من نصف قرن طبيعة (وحالة) العلاقات بين دول الخليج وشبه الجزيرة وأيضاً بين شعوبها. فمثلاً، ظلت مشاركة اليمن والعراق محكومةً لسنوات بتذبذب علاقاتهما مع دول مجلس التعاون.
وأقيمت هذه النسخة من البطولة في العراق للمرة الثانية، بعد 43 عاماً من الاستضافة الأولى عام 1979. وفي ذلك إشارة واضحة إلى رغبة دول الخليج العربية في تعميق التقارب السياسي مع العراق، وتعزيزه شعبياً من خلال كرة القدم. وليس من الواضح ما إذا كان اختيار ملاعب محافظة البصرة لاستضافة البطولة يعود فقط إلى وجود المدينة الرياضية فيها، أم لأسبابٍ أخرى لوجستية أو أمنية. ولكن المؤكد أن أهل العراق في البصرة كانوا شديدي الحفاوة والود مع جماهير المنتخبات المشاركة من دون استثناء.
وغلفت أجواء المنافسة ملامح حنين وافتقاد متبادل بين الخليجيين والعراقيين واليمنيين. ليس فقط على مستوى الفرق الرياضية المتنافسة، بل أيضاً على مستوى الجماهير المساندة، ففضلاً عن الأعداد الكبيرة للجماهير التي ملأت الملاعب في كل المباريات، حفلت فترة البطولة بمشاهد كثيرة لتفاعل إنساني إيجابي وتناغم بين مشجّعي الفرق المتنافسة، داخل الملاعب وخارجها. وكان هذا الدفء الشعبي واضحاً في الفنادق والمطاعم والطرق والأسواق وغيرها من الأماكن العامة.
هذه الأجواء التي أحاطت بخليجي 25 جديرة بالتوظيف والبناء فوقها، فكما كانت السياسة، وخصوصاً الأوضاع الداخلية في اليمن والعراق، سبباً مباشراً في تعطيل اندماجهما في الفعاليات الخليجية، لا بد أيضاً من استثمار نجاح البطولة في جمع شعوب الخليج والجزيرة العربية ودولها، وتوظيف الحدث الرياضي الكبير في تحقيق مردود إيجابي سياسياً. ليس فقط على مستوى العلاقات المباشرة والثنائية بين الدول المشاركة في البطولة، ولكن أيضاً على مستوى التفاهم وتنسيق المواقف بشأن القضايا والاستحقاقات الإقليمية وكذلك الداخلية، فالأرضية المشتركة التي جمعت فرقا رياضية وجماهير وإعلاميين ومتابعة ضخمة من دول الخليج العربية والعراق واليمن كفيلة بتوفير قوة دفع هائلة تتجاوز حدود البطولة وكرة القدم. ويمكن بفضلها إيجاد روابط تعاونية ومصلحية مشتركة ومتينة.
ولا غضاضة في أن يبدأ العمل في هذا الاتجاه بالرياضة، بتوسيع نطاق الفعاليات الرياضية المشتركة بين دول مجلس التعاون والعراق واليمن، وتنظيم مبارياتٍ بين الأندية الكبرى، وكذلك بين المنتخبات. على أن تغطّي الروابط والفعاليات مجالات أخرى لاحقاً، مثل السينما والمسرح والغناء ومهرجانات ثقافية وشعبية تتفاعل فيها شعوب شبه الجزيرة العربية وثقافاتها وتنصهر معاً.