ما لم يبثّه مسلسل الاختيار؟
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.
كما تتبع السياسة والاقتصاد وأكثر مناشط الدولة في مصر للمؤسسة العسكرية الأمنية، أُلحقت الدراما والسينما بها. وأسندت المهمة إلى المخابرات العامة، وتحديدا للضابط محمود، نجل الرئيس عبد الفتاح السيسي. وقد أكّد هذه المعلومة لي واحد من العاملين في "نتفليكس". وبمعزلٍ عن القرابة، كان محمود أمنيّا وأمينا في تنفيذ تعليمات والده، جبرية عسكرية لا مساحة فيها للاختيار. يظهر السيسي ليس حاكما بشرا، بقدر ما هو مخلوق نوراني شكلا ومضمونا، لا يعرف الخطأ. وخصمه الرئيس المنتخب محمد مرسي، لا يظهر مجتهدا يصيب ويخطئ، هو مسخٌ شيطاني يحيط به أشرار، خيرت الشاطر والمرشد وغيرهما.
أنفق على العمل بغير حساب، وكما فتحت خزائن المال له والإمكانات، فتحت ملفات المخابرات. وهنا كان مقتله، فكل محاولات التقطيع والمونتاج للوثائق الحقيقية لم تتمكّن من حجب الحقيقة. وعلى الرغم من المساحة المحدودة لها، إلا أنها نسفت العمل الدرامي الذي استُخدمت فيه كل تقنيات الإبهار والخداع. من اختيار ممثلٍ ممشوق القامة يمثل دور السيسي يتحدّث على مدار الساعة باتّزان وهدوء، لا يعرف الانفعال، إلى "تقزيم" الرئيس المنتخب محمد مرسي، وتقديمه مضطربا مرتجفا.
في التسجيلات الحقيقية، ظهر الحجم الحقيقي بعيدا عن تقنيات التلاعب والإبهار. كان المرشّح الرئاسي مرسي وحده مقابل رئيس المجلس العسكري، المشير حسين طنطاوي، ومدير المخابرات الحربية اللواء عبد الفتاح السيسي. بقدر ما ظهر متماسكا صارما، كان ودودا محترما مع خصومه. اكتفى السيسي كاتب محضر، ولم يشارك في النقاش المسجّل، مكتفيا بتوزيع الابتسامات ومجاملة المشير الذي يجامل المرشّح الرئاسي "المتديّن"، ويحدّثه عن علاقة السيسي بربنا. كان المجلس العسكري وقتها مرعوبا من الشارع وليس العكس. ويريد أن يطمئن القوة الأساسية، جماعة الإخوان المسلمين، ويتحالف معها.
استقال نيكسون وغادر البيت الأبيض لأنه تجسّس على خصومه في الحزب الديمقراطي. وفي العالم العربي، يتفاخرون بالتجسّس ويقدّمونه إنجازا لجهاز الأمن. في التصوير غير القانوني وغير الدستوري لمرشّح رئاسي، تحدّث مرسي بحسم أن النتيجة لن تتغيّر، وحذّر من انفجار الأوضاع لو حصل التزوير. وفوق ذلك، طلب دعوة البرلمان، حتى لا يحكُم منفردا. هنا ناور المشير بأنه لا يستطيع مخالفة قرار المحكمة، مع أنها ليست محكمة ولا دستورية، بقدر ما هي مستودع لفلول حسني مبارك، وثبت لاحقا دورها التخريبي مع الثورة المضادّة.
ما لم يبثّه المسلسل، بحسب ما سمعته في حينها من قيادات في الجماعة، نقلا عن قيادات في المجلس العسكري (ربما يكون السيسي)، أن استطلاعا داخليا أجري على ضباط القوات المسلحة سُئلوا فيه عما إذا كانوا سيقمعون المعتصمين في ميدان التحرير لو طُلب منهم، كانت النتيجة الصادمة التي حالت دون التزوير وتفويز أحمد شفيق أن 80% منهم أجابوا بلا. هذا سبب تأخّر إعلان النتيجة، وبعدها الاجتماع مع المرشّح محمد مرسي وبناء جسور التفاهم معه. مع أن التسجيل انتهاك لخصوصية مواطن مصري، فضلا عن رئيس منتخب، إلا إنه قدّم صورة تليق بأول رئيس منتخب في تاريخ مصر.
ولا تختلف تسجيلات خيرت الشاطر، التي يحذّر فيها من عودة موجة العنف من خلال اختراقات السلفية الجهادية التيار السلفي، عن تسجيلات مرسي. وما ينسف أكاذيب "الاختيار" أنها تختلف عن أكاذيب النيابة العامة، فمرسي، رحمه الله، الذي حيكت ضدّه قضايا التخابر مع "حماس" وغيرها، وبحبكة قانونية لا تقل رداءةً عن الحبكة الدرامية، لم توجّه له التهم في المسلسل، ولم تظهر التسجيلات في المحكمة؛ لسببٍ بسيط، أنها تبرئ الرجل بدون الإضافات الدرامية. والمأمول بدلا من الدراما التي كلفت مليارات الجنيهات أن تبثّ التسجيلات كاملة بلا تدخل، ويحكم المواطن المصري على الوقائع كما هي.
دع عنك ذلك كله، ولنفترض أن المسلسل قدّم حقائق. فإن ما لم يستطع نفيه أن مرسي حاصل على الدكتوراه من أرقى الجامعات الأميركية، وانتخبه شعبه رئيسا وقبلها نائبا، وقد أفضى إلى ربه بعد اختطاف وسجن انفرادي وإهمال طبي. حَكم عاما سيُحاكمه التاريخ عليه، لكن من يحكم منذ عقد لم ينفذ أيا من وعوده التي قطعها، وأولها أنه لا يريد الحكم، ولا يجد المواطن غير الديون التي جعلت من مصر أكبر مدين في الشرق الأوسط، فبحسب "ستاندرد آند بوز" بلغت هذا العام نحو 392 مليارا بعد أن كانت قبل خمس سنوات 184 مليارا فقط. من دون نسيان المساعدات التي زادت على 40 مليارا التي تلقتها مصر عقب الانقلاب. كل هذه الديون، وتنسحب مصر مرتين من مناقصة شراء القمح عجزا هذا العام، وهي أكبر مستورد قمح في العالم. في المقابل، انتهى عام من حكم مرسي، والنقاش لم ينته عن قرض الملياريْن، ولم يدخل في مشاريع التطوير العقاري، بل وضع استراتيجية لتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح خلال أربع سنوات.
ردّ المصريون على مسلسل الاختيار بفيديوهات عن غلاء فاحش بأسعار الأساسيات الغذائية واختفائها. وتختمها بـ"منك لله يا ياسر جلال"، الممثل الذي اختاره السيسي للقيام بدوره لطوله ووسامته، وكأن الدراما تطعم خبزا. هي تعيد إنتاج قصة طبخة الحصى في التراث، قد تُسكت الأطفال ليلة وينامون، لكن الحصى تظل حصى. وهذا تاريخ مصر منذ المتنبي "وكم ذا بمصر من المضحكات/ ولكنه ضحك كالبكا". و"منك لله يا ياسر جلال".
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.