ما يعنيه فوز اليمين في إيطاليا
بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والقوة التي ظهر بها اليمينيون في أكثر من بلد إبّان المعارك الانتخابية، تأتي نتيجة الانتخابات الإيطالية لتؤكد أنّ الاتحاد الأوروبي يواجه التحدّي الأهم في تاريخه.
وفق النتيجة التي أعلنت، سوف تتشكّل الحكومة الإيطالية من الأحزاب الثلاثة الأكثر يمينيةً وشعبوية. ليست رؤى هذه الأحزاب متطابقة، لكنّها تكاد تكون متفقة على قضايا رئيسة، أهمها التشكيك في جدوى الاتحاد الأوروبي، وما يعرف بالقيم الأوروبية، إضافة إلى قضية الهجرة، الحساسة جداً بالنسبة لليمين الذي يرى في المهاجرين تهديداً أكثر من أنّهم إضافة اقتصادية.
يقترب خطاب جورجيا ميلوني، رئيسة حزب "إخوة إيطاليا" الأقوى من بين الأحزاب المنتصرة والمرشّحة لمنصب رئيس الوزراء، والتي ينتمي حزبها إلى مدرسة "الفاشية الجديدة" كثيراً من خطابات اليمينية الفرنسية مارين لوبان التي حصلت، في انتخابات الرئاسة الفرنسية، في إبريل/ نيسان الماضي، على 41% من الأصوات في مقابل ماكرون. وهذه النسبة تمنع التقليل من شأن أطروحاتها، وتجبر على الاعتراف بأنّها باتت تملك أنصاراً كثيرين. تتشابه ميلوني مع لوبان أيضاً في صعودها المفاجئ، الذي حوّل حزبها من وجود هامشي على الساحة السياسية في انتخابات 2014 إلى اتجاهٍ يحظى بقرابة ربع الأصوات، وهو ما يدفع أيضاً إلى المقارنة مع "ديمقراطيي السويد" الحزب اليميني الصاعد في السويد، والذي كان وزنه هامشيا أيضاً قبل أقل من عقدين.
وبشأن المهاجرين، لا تنطلق النظرة اليمينية فقط من الدوافع الاقتصادية التي ربما فرضتها التحدّيات الحالية، وإنما من دوافع ثقافية ومن فلسفة مفادها بأن الهوية الأوروبية في خطر. بهذا المنطق، يكسب الخط الشعبوي بشكل متزايد الملايين من المناصرين، سواء ممن يرون أن الاتحاد الأوروبي تخلّى عنهم، ولم يتشارك معهم المسؤولية تجاه العابرين الذين يفدون يومياً على حدودهم، أو من الذين ينظرون إلى الهجرة وفق نظرية المؤامرة التي لا ترى فيها سوى وسيلة ناعمة لأسلمة أوروبا وتغييرها.
سبق لميلوني أن اتهمت الاتحاد بالتواطؤ والمساعدة على تنفيذ عمليات "التبادل الإثني" وهي نظريةٌ يشار إليها كثيراً
لا تنكر ميلوني إعجابها بأفكار رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، ولا دعمها هذه الأفكار التي منها رفض استقبال المهاجرين وعدم الاعتراف بحقوق المثليين والعمل على تعزيز الهوية المسيحية، بما تشمله من قيم قومية وعائلية. مثل أوربان، الذي ظل يوجه انتقاداتٍ لاذعة للاتحاد الأوروبي، وهو يتساءل عن جدواه. سبق لميلوني أن اتهمت الاتحاد بالتواطؤ والمساعدة على تنفيذ عمليات "التبادل الإثني" وهي نظريةٌ يشار إليها كثيراً، ومفادها بأنّ هناك تبادلاً جارياً حالياً بين سكان أوروبا الأصليين وملايين الوافدين.
تابعت الصحافة الأوروبية تصدّر ميلوني بقلق، وكثيراً ما كان يجري التذكير بتصريح لها في العام 1996، حينما كانت منتمية لـ"التحالف الوطني". قالت ميلوني، في ذلك التصريح، إنّ "موسوليني كان سياسياً جيداً" وهو تصريحٌ صادم بالنسبة لبلد ظلّ يعمل عقوداً على محو آثار الفاشية الإيطالية التي كانت سابقة لنازية هتلر.
أسئلة كثيرة تراود المتابعين للحدث الإيطالي، ليس فقط بشأن مستقبل اللاجئين بعد تصريح ميلوني عن ضرورة منعهم من الوصول وضرورة العمل على إيجاد حاجز بحري، لكن أيضاً عن تشكيل الحكومة ومدى قدرتها على الصمود، وهي تجمع فريقاً واحداً، لكنّه لا يخلو من اختلافات، فبعكس سلفيو برلسكوني وماتيو سالفيني اللذين يجاهران بمواقفهما المساندة لروسيا وللرئيس فلاديمير بوتين، كانت ميلوني تظهر في مظهر الداعم لأوكرانيا.
هنالك أسئلة على الصعيد الاقتصادي أيضاً، فهل ستكون حكومة ميلوني جادّة في معاندة السياسات الأوروبية الموحدة المبنية على اللبرلة والربط الاقتصادي؟ هل سيلتزم الفريق الحكومي الجديد بخطة الإصلاح المتفق عليها أوروبياً لتجاوز الديْن الحكومي، أم أنه سيتجاهلها؟ أخذاً في الاعتبار أنّه سوف يتكون، إضافة إلى حزب ميلوني قليل الخبرة في العمل الحكومي، من أحزاب برلسكوني وسالفيني التي تحمل أيديولوجيا معادية للاتحاد الأوروبي.
يأمل المتخوفون أن تكون القيادة الجديدة واعيةً لحجم الدعم المالي الذي تحصل عليه إيطاليا عبر البنك المركزي الأوروبي
هل يمكن أن نشهد تحولاً جذرياً في شكل إيطاليا بناء على معطيات هذه النتيجة؟ يجيب بعضهم بنعم، ويؤكّدون على هذا بأنّ الغالبية البرلمانية قد تقود حتى إلى تغيير الدستور ونظام الحكم إن أرادت ذلك، لكنّ خبراء في الشأن الإيطالي يرون ذلك مستبعداً، لأسباب كثيرة، منها ثبات المؤسّسات (الرئاسة، المحكمة الدستورية…) التي تعمل على وضع خطوط حمراء كفيلة بأن توقف اليمينيين إذا ما تجاوزوها. من الأسباب المطروحة أيضاً عقبات أمام حدوث تغييرٍ جذريٍّ، المنافسة التي سوف تعيشها الأحزاب الثلاثة في ما بينها، وهذا يُقرأ في ظل التاريخ السياسي الإيطالي، إذ شهدت البلاد منذ منتصف القرن الماضي عدداً كبيراً جداً من الحكومات، بسبب التنافس بين الأحزاب وصعوبة التوافق أو الاتفاق.
من الأمثلة على أنّ إيطاليا لن تتغير بشكل كبير خلال الأشهر المقبلة قضية الإجهاض، فعلى الرغم من أنّ حزب ميلوني يدّعي تبني القيم العائلية الكاثوليكية، فإنّ الأخيرة أكّدت، في أحد لقاءاتها، أنّها ليست بصدد إلغاء إباحة الإجهاض المستقرّة قانونياً منذ العام 1978، والأمر مشابه في موضوع المثلية الجنسية، وبحدّ أقل في موضوع اللاجئين الذي تبدو التصريحات بشأنه أقرب إلى المساومة مع الأوروبيين.
يأمل المتخوّفون أن ينجح "حائط الصد" الذي تمثله الدولة العميقة في أن يمنع تهديد العلاقة بين بروكسل وروما، خصوصاً بعد تأكيد الإحصائيات أنّ الغالب الأعم من الإيطاليين يدعمون اليورو والبقاء ضمن الاتحاد، كما يأملون أن تكون القيادة الجديدة واعيةً لحجم الدعم المالي الذي تحصل عليه إيطاليا عبر البنك المركزي الأوروبي. هذا الدعم والضخ المالي، الذي لا مثيل له منذ خطّة مارشال، مهدّد بالتوقف إذا ما أظهرت القيادة السياسية الجديدة أي مخالفةٍ للموقف الأوروبي المشترك. هذا سبب جديد يدفع ميلوني إلى التمسّك بأوروبا، حتى وإن كانت لا تفكّر سوى بالمصلحة الوطنية.
الأكيد أنّ الحكومة الجديدة سوف تواجه تحدّيات جسيمة في بلدٍ يكاد يكون الأكثر هشاشة على المستوى الاقتصادي بين الدول الأوروبية، بلد تتزايد فيه معدّلات البطالة وتتآكل فيه المداخيل بفعل التضخّم.