مباريات الحقّ والقوّة
اعلمْ، أيّدك الله، أنك إمّا من أولئك الذين يؤمنون بانتصار الخير على الشر في نهاية المطاف، ذلك أنّ لكل شرّيرٍ عقابه، ولا بدّ للحقّ من أن يعلو ويظهر، وينتصر على الباطل، مهما استقوى وتجبّر وساد. أو أنّك من هؤلاء الذين يروْن أنّ القوّة هي التي تنتصر دائماً، إذ توجّه الأحداث كما يروق لها، تُعلي مصلحتها على الشأن العام، غير عابئةٍ بما تقتضيه المبادئ والأخلاق.
أولئك وهؤلاء قلّما اجتمعوا على رأيٍ وسطي، بل إنّهم، على تفاؤلهم أو تشاؤمهم، لا يفتقرون إلى أمثلة ولا دلائل ولا براهين مُعبّرة تثبت وجهات نظرهم المتعاكسة. فثمّة من يستشهد بحروبٍ همجيةٍ دموية، وانقراض شعوب برمّتها، ومجازر وإبادات لا تني تتكرّر منذ فجر التاريخ، من دون أن ينسى محاكمة حضارة بشرية بُنيت على خطيئة أصلية، وجريمة قتل بين أخوين. في المقابل، ثمّة من يذكّرنا بالنهايات القاتمة لكلّ من استبدّ وطغا، بالطوفان وتماثيل الملح في سدوم وعمورة، وبالخواتيم الدرامية لحضارات ازدهرت وعلت حتَّى قارعت الشمس، قبل أن تذوي وتهوي رماداً مذرّراً، وركامَ حجارةٍ صمّاء.
والحال، أنّهما، أيّ الحقّ والقوّة، ما برحا يتنازلان ويتواجهان في مباريات ابتدأت منذ زمنٍ سحيق، لكن للأسف، هو الحقّ من يخرج في كلّ مرّة خاسراً من الحلبة، مليئاً بالرضوض والكدمات، ملتوي الأنف، دامي الوجه، مكسور الأضلاع، لا يسانده جمهور ولا يهتف له مشجّعون، وإن فعلوا، فلحثّه، فقط، على مبادلة القوّة بأقسى اللكمات، سعياً إلى الانتقام. والحال أنّ الجمهور، إذ اعتاده خاسراً أبداً، بات يتخلّى بسهولة عنه. وحدهم ضعاف القلوب ورهاف الحسّ يخرجون مغادرين، ومن يبقى منهم يقفل أذنيه ويغمض عينيه لأنّ ما يدور أمامه يفوق مقدرته على الاحتمال. في كلّ الأحوال، لا بدّ أن يغادر الجمهور وتُطفأ الأضواء، فيجلس الحقّ وحيداً، متكوماً في الزاوية، متّكئا على الحبال، يُحصي خسائره من أرواح وممتلكات ومبادئ وأحلام وفِكَر، فيما يُرجع الصدى من البعيد هتافات المُحتفلين بالانتصار.
لِمَ تراه يكرّر الأخطاء نفسها؟ تتساءل القوّة؛ كيف لا يرى الثابت الأكيد وما زال يَعجَب أنّ الاستغاثات لا تُسمع، والحرائق لا تُطفأ، والعيون لا تخشع، والأفئدة لا ترتعش أمام اندحار الحياة وتفريغها من كلّ مقاومة؟... في نهاية الموقعة، يقف الحقّ بصعوبة، يجرجر قدميه الثقيلتين. هو لا يريد أن يبدّل ثيابه الممزّقة، أن يغسل وجهه من كتل الدم المتيبّسة. عينه اليسرى لا تَرى بصفاء، واليمنى تكاد لا تُرى. لن يعود إلى بيت. لا مكان له في الأصل، ليس ثمّة من ينتظره أو يكترث له، ومن تُراه يبقى مُريداً لخاسرٍ أبديّ؟ في الحانة القريبة، حيث يجتمع خاسرون من أمثاله، يستقبله النادل ببذلته الجرداء فاقدة اللون: "أهلاً بالبطل"، يقول بضحكة صدئة خارجة من فمٍ لامع اللثّة، شبه خال من الأسنان. "الحق سيف قاطع"؛ يقول أحدهم، لكن من ذا الذي سيتحقّق من هذا القول؟ بل إنّ من سيفعل، سيغمى عليه ضحكاً.
والحقّ الحقّ أقول لكم، الحق ليس سيفاً، وإن كان، فهو من البلاستيك والكاوتشوك، لعبة، يلتوي بسهولة، خفيف الوزن، لا يؤذي ولا يجرح، ومُصرّح به من وكالات حماية الطفل (!) والحقّ الحق أقول لكم، ليس الباطلُ نقيضه، كما يُعتقد، إذ إنّ الأخير يبيّض صفحته ويُكسبه بالتضادّ معنى إيجابياً، بينما تُفقده القوّةُ حيلتَه، تكشف قناعَه، وتقدّمه عارياً، مغلوبا على أمره. القوّة، على عكس الباطل، ليست معياراً أخلاقياً. القوّة مكتفية بذاتها، لا تحتاج تعريفاً أو دعماً بالتناغم معها أو بالتضادّ.
ترجع القوّةُ في آخر الليل إلى كهفها. يزول انتشاؤها. تكرار هذه المباريات بدأ يتعبها، السبب هو انعدام التكافؤ. لا إمتاع في مسابقة تعرف سلفاً أنّك أبداً رابحُها؟