متربّصون بازدواجيات الغرب
عقوداً من السنين، نجحت الحركاتُ اليسارية والقومية والإسلامية في الشرق الأوسط بإقناع القواعد الشعبية أن كلَ نظام يستند إلى الغرب مفاهيمياً هو بالضرورة معينُ الاستعمار. أكثر من ذلك، عومل أيُّ خطاب ثقافي لا يتضمّن عداءً للنموذج المعتمد في أوروبا الغربية والولايات المتحدّة بالرفض القاطع.
لم يكن الأمر مجرّدَ حراك تقف وراءه أحزابٌ وجماعاتٌ سياسية، بل احتضنتُه مواقفُ ثقافيةٌ حاسمة تبنت أنماطاً فكرية أو أيديولوجية، جوهرُها رفضُ الأسسِ المستند إليها غربياً. تذرّعوا بأن تلك الأسس انحرافٌ اجتماعي أو رأسماليةٌ متوحشّة أو انفلاتٌ سياسي أو تفككٌ وطني… أو أنها ببساطة أيديولوجيا العدو. منذ أربعينيات القرن الماضي حتى وقت قريب، كان إلغاء الأحزاب أو هيمنة حزب واحد والحيلولةُ دون الحريات الاقتصادية والسياسية سياقاً اعتمد على عقيدة واحدة تشارك فيها الأضدادُ الثلاثة، الشيوعيون والقوميون والإسلاميون، هي صناعة جمهوريات دكتاتورية بزعم التصدّي للنموذج الغربي لأنه النموذج الاستعماري.
في هذا الصدد، ظلّت النكبةُ وقيامُ إسرائيل المدخلَ الذرائعي للانقلابات السياسية الحادّة. حتى أنظمةٌ لم تسقط، وجدت نفسها منساقةً إلى مساراتٍ مشابهة لبلدان الانقلابات العسكرية. بدت الهزيمة العربية في حرب 1948 بدايةَ نهايةِ الدولة، في المشرق العربي وإيران، بصيغتها التعدّدية المدعومة غربياً، إلى حكم شديد المركزية، شمولي أو دكتاتوري، توكّأ على الأمن القومي في الصراع مع "الاستعمار" وقواعدِه الثقافية والسياسية. هنا، تآكلت فكرة الدولة. مرّت بتحوّلات واستحالات في بلدان شرق أوسطية عدّة، بدءاً بمصر، ثم العراق وسورية واليمن والسودان وليبيا وإيران.
مع النكسة عام 1967، وهزيمة النظام القومي متمثلاً بجمال عبد الناصر، كان الصعودُ الثاني للعقائد المبنية على قاعدة أن ما يأتي من الغرب "شرّ". توقَّل الإسلاميون تدريجياً. خاضوا معارك وجودية ضد خلفاء عبد الناصر في أنظمة عربية، أو ضد من اتُهموا بأنهم عملاء واشنطن، كما حصل في طهران مع الشاه. استمرت منهجية التعكز على الصراع مع الغرب، وطبعاً إسرائيل، لبناء نظم سياسية تمارس قسوة يومية مستمرة. بل سوّق لأنظمة تقتل شعبها، على أنّها أنظمة تحرّرية، فقط لأنها جاهرت بالعداء للولايات المتحدة وإسرائيل. بالطبع، خوّنت أنظمة سياسية أخرى، لأنها لم تقدِم على خطواتٍ استعراضيةٍ أو حقيقيةٍ في المواجهة.
تتعالى أصوات حملة تخوين غاضبة ضد دول كثيرة في المنطقة، وراءها عواطف أحياناً، وتوجهات مرسومة أحياناً أخرى
تتعالى حالياً أصواتُ حملةِ تخوينٍ غاضبة ضد دولٍ كثيرة في المنطقة، وراءها عواطف أحياناً، وتوجّهات مرسومة أحياناً أخرى. ربما يبدو الأمر لبعضهم مؤشّراً صحّياً، لأنّ هذه الأنظمة بالنهاية دكتاتورية، إلّا أنّ الخطر يكمن، من جهة، في أن الأنظمة ذاتها تسعى إلى الاستفادة مما نجم عن الحرب الراهنة، وبالتالي، استمرار سوء استغلال القضية الفلسطينية. من جهة أخرى، يوجد خصومُ هذه الأنظمة الذين يريدون استعادةَ لعبةِ التحرّر من الاستعمار القديمة. أيْ الصعود اعتماداً على ترويج خطاب عمالةِ النظم القائمة وضرورةِ إسقاطها. النتيجة متوقّعة، هي استبدالها بأنظمة أسوأ. لذا، ستندلع صراعاتٌ في أكثر من بلد شرق أوسطي على هامش القضية، ليس لمعالجتها، بل لاستثمارها في معارك داخلية اتّكاءً على عواطف شعبية غاضبة.
لنعرض المسألة على النحو التالي. يوجد حالياً غضب واسع من النموذج الغربي. الأساس الذرائعي راهناً القول إن الديمقراطية الغربية كذب، وإن حقوق الإنسان مجرّد شعار استعماري، وإن الأوروبيين منافقون. هذا يقال على نطاق واسع، نظراً إلى طريقة التعاطي مع مشاهد تهزّ ضمير أي إنسان نتيجة هجمات مروّعة أزهقت أرواح آلاف الأطفال وغيرهم من العزّل، ما أدّى إلى شعور عالمي واسع بأنها خرجت من نطاق مواجهة حركة حماس إلى عقاب جماعي. هناك بالطبع ازدواجية معايير، وهذا ما أثار انتقادات أوساط صحافية وسياسية وأكاديمية كثيرة في الغرب. علماً أن هذه الانتقادات ساهمت كثيراً في جعل دول غربية تتراجع خطوة في التعاطي مع الوضع، وتحاول البحثَ عن حلول، بعد أن كانت تقريباً مجمعةً على دعم الحرب بوصفها ضد حركة إرهابية استهدفت مدنيين قتلاً وخطفاً. للتعاطي الغربي مجالٌ آخر يمكن الحديث عنه في سياق آخر. سياقنا الحالي هو التعامل في دول عديدة في الشرق الأوسط، وغيرها من البلدان ذات القابلية للحكم المستبدّ، مع الديمقراطية بذريعة أنها كذبة غربية.
من المتوقّع أن تُعتمد في مواجهة أيّ معارضة ورقةُ أنّ الغرب مثالٌ غير صالح، وستكون هذه الورقة أساساً في بروباغاندا تجميل البطش الداخلي
كسَر الموقف الراهن شيئاً داخل كثيرين، ومن بينهم معجبون بالنموذج الغربي. هناك قسم، أتمنّى أن يكون ممثلاً للأكثرية، ينطلق فعلاً من رفض ازدواجية المعايير والحرص على نجاح الديمقراطية بصدق. من جانب آخر، الذين لم يتأثّروا سوى ببريق المظاهر الغربية الجمالية من دون فهم نقدي. لا يختلف هؤلاء، في النهاية، عن المعجبين بالصين، بلمعانها الاقتصادي أو بأوهام أنها ستغيّر واقع عالمنا وتنهي النموذج الغربي. الطرفان، المعجب بلمعان النموذج الغربي أو لمعان النموذج الصيني هما ضدان، لكنهما متشابهان في أنهما سيتراجعان عن الإعجاب بمجرد خمود البريق. يحصل ذلك فعلاً الآن. هناك من نظر للغرب من هذه الزاوية، فصُدم. يوجد أيضاً من ينتظرون، لأسباب عقائدية، سقوطَ الغرب، وكانوا يبحثون عن زلّات للقول إنه غير صالح. ها قد جاءهم ما هو أكثر من زلّة، فطفقوا يروّجون ضرورةَ مواجهته والتخلي عنه بحجّة أنه منافقٌ وكاذب وغيرها من أوصاف يشترك فيها بشرٌ كثيرون، ويمكن أن تنسب إلى كل الحضارات الراهنة والسالفة.
الأخطر من هؤلاء السلطةُ المنفتحة على الاستبداد والبطش بكل أنماطها. إذ ما انفكت المعركة ضدها من أجل الحرية واعتماد الديمقراطية تعوّل على النموذج الغربي، بوصفه مثالاً على النجاح سياسياً واقتصادياً وعلمياً ومجتمعياً. كما أنه بقي مهماً لتقليل مستويات العنف السلطوي ضد المجتمعات. شعرت منظومات الحكم، في أحيان كثيرة، بالحرج من العنف، واضطرّت إلى سياسات أقلّ قسوة. أما اليوم فإننا أمام حال جديدة يمكن أن تُستغلّ بأسوأ طرق البطش بشعوب الشرق الأوسط. من المتوقّع أن تُعتمد في مواجهة أيّ معارضة ورقةُ أنّ الغرب مثالٌ غير صالح، وستكون هذه الورقة أساساً في بروباغاندا تجميل البطش الداخلي. إنه ما حصل منذ خمسينيات القرن الماضي. اعتُنقت فكرةُ أنّ الديمقراطية جزءٌ من سياسة استعمارية، سياسةٍ معتمدة من "ممتصّي ثروات الشعوب". أفلحت الأنظمة الصاعدة حينها بتقديم نفسها حاميةً الأمةَ من دول الاستعمار الديمقراطية. هكذا تسلّق ممتصّون "وطنيون" للخيرات والحيوات والمستقبل، فتحوّلت من أوطان ذات أمل بمستقبل، رغم أنها كانت مرهونة باشتراطات غربية، إلى أوطان بلا أمل خاضعة لإرادة فرد حاكم أو جماعة متحكّمة، إضافة إلى أنها عادت مرهونةً لاستحقاقات غربية مثل صندوق النقد الدولي.
على أي حال، ستحرص آلية الاستبداد القائمة أو منافساتها على استغلال فرصة الانكسار الراهن، على أن يكون الجيل الشاب الحالي، أو الجيل المقبل، متحفزاً بعقيدة الغضب وكراهية النموذج الغربي وبالتالي كراهية الديمقراطية. وكما جرت العادة، القاعدة هي الاستفادة من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، أو الإسرائيلي العربي، أو الإسلامي الغربي. يعني العمل على تقويض أيّ معطى يتشابه مع المنظومة السياسية الغربية، مثل الديمقراطية أو حقوق الإنسان أو حرية الإعلام أو حقّ تقرير المصير… إلخ.
لا يعني القول بازدواجيةٍ في الخطاب الغربي أنّ الديمقراطية أو حقوق الإنسان أو الحرّيات أو الصحافة سلطة أوهام
المشتغلون في صناعة الأفكار والخطاب الثقافي سيجدون أنفسهم أمام تحدّ صعب. في الماضي، كان جلّ صنّاع الرأي زمنَ الاستعمار أو التحالف مع الغرب، إما مندفعين خلف بريق الاستقلال والقرار الوطني أو خائفين من علوّ صوت اتهامهم بأنهم رجعيون أو عملاء وخونة، ما اضطرّهم إلى الصمت أو انساقوا نحو جوقات التطبيل لمن سمّوا قادة التحرّر. يمكن أن يتكرّر الوضع حال تجديد العهد مع الاندفاعات العاطفية. إن صار ذلك، فهذا يعني عقوداً أخرى يسودُها الصمتُ المقدّس بعداء النموذج المتوحش أو المنافق، والتهريجُ المبجّل بكونه سلاحاً في مواجهة ما سيقال إنه "نفاق" الديمقراطية. سيحصل هذا إن لم تُمتلك شجاعةُ الدفاع عن الديمقراطية في مواجهة الترويج ضدها بمبرّر ازدواجية مطبقيها غربياً.
في المحصّلة، لا يعني القول بازدواجيةٍ في الخطاب الغربي أنّ الديمقراطية أو حقوق الإنسان أو الحرّيات أو الصحافة سلطة أوهام. تخلّ الازدواجية بمصداقية الخطاب، ولا تؤدي إلى نفي جدارة القواعد السياسية المعتمدة في البلدان الغربية ونجاحها نسبيا في صناعة دول متقدمة وذات مستويات عالية من الحريات وفّرت فضاء آمناً لأن تخرُج في لندن ونيويورك مظاهرات متكرّرة تطالب بوقف الحرب في غزّة. وهي مظاهرات أكبر حجما وتأثيرا من أي مثيلات لها في أكثر عواصم الشرق الأوسط التي لا تمتلك سوى تفسير الأنظمة المستبدة للفضاءات الآمنة.
من ثَم، محاربة المقولات الغربية لن تضر الدول الأميركية والأوروبية، فبعضها بشكل وآخر متحالف مع نظم سياسية مستبدة انطلاقا من المصالح القومية الخاصة بتلك الدول. المتضرّر من ذلك مجتمعات تريد حياةً أفضل ودولاً عادلة. وبالتأكيد، لا يمكن أن يحصل هذا بحكم مستبدّ أو حتى بما يسمّيه الواهمون مستبدّاً عادلاً، كما لن يحصل بإذلال شعب وحرمانه إقامة دولة فعلية.