متلازمة "راوح مكانك" في لبنان
لا تسير عجلة قطار الحياة في لبنان قدمًا، بل هي متوقفة عن العمل، تمامًا كما قطاره الخارج من الخدمة اليوم، بينما سككه الحديدية بيعت في سوق الحديد، إذ لم يبق منه سوى مصلحة سكك الحديد التابعة لوزارة الأشغال والنقل، تُصدر كل يوم جدول سير قطار، ليس موجودًا إلا في ذاكرة من عايشوه.
هكذا هي المشهدية العامة للحياة السياسية في لبنان، يسيطر عليها الجمود القاتل، في وقتٍ أحوج ما يريده لبنان، الدفع بالاستحقاقات المطلوب إجراؤها. فكأن مسؤوليه اليوم باتوا خارج الخدمة، باستثناء خطاباتهم وتصاريحهم التي تملأ صدى البلاد، تكيل الاتهامات ذات اليمن وذات اليسار. الكل يمتلك الحقيقة وهو خارج منظومة الفساد، ويريد المحاسبة للاقتصاص من الجاني، بينما الشعب جلّ ما يفعله هو التصفيق.
استحقاقات دستورية وقانونية تنتظر بلدًا لا يفقه سياسيوه سوى لعبة "النكد السياسي"، وتعطيل المشاريع، حتى ولو على حساب مصلحة المواطن. فبينما يعيش اللبناني على أمل أن يكون الغد أفضل، يعاني السياسي من متلازمة "راوح مكانك"، إذ منذ تكليف الرئيس نجيب ميقاتي لتشكيل الحكومة بعد استشارات نيابية ملزمة، ولم تزل البلاد على حالها قبل التكليف.
استحقاقات دستورية وقانونية تنتظر بلدًا لا يفقه سياسيوه سوى لعبة "النكد السياسي"
أزمات المحروقات على حالها، وطوابير الذلّ على المحطات تظهر بين حين وآخر ولم تختف، الأمر سيان في أزمات الأدوية، والخبز، والمياه، والنفايات على الطرقات. أما أزمة الكهرباء التي أنهكت خزينة الدولة وشاركت برفع نسبة الدين العام بنسبة 25 مليارا، فحدّث ولا حرج، فقد أصبحت الزائر خفيف الظل، إذ في مناطق كثيرة في لبنان تكون التغذية صفر ساعة في اليوم.
"جهنم"، توصيف أطلقه رئيس البلاد ميشال عون، قبل سنتين، عن حال لبنان، كيف لا وإضافة إلى مشكلاته في الداخل، هناك سلسلة الحرائق المفتعلة، التي تضرب لبنان من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه. حرائق تتكرّر مع كل موجة حرّ تضرب هذا البلد، طالما الفاعل خارج عن إطار المحاسبة، حتى لو فضح أمره، وطالما المسؤول غير معنيٍّ بوضع خطة استباقية لتجنّب الحرائق التي تحوّل لبنان الأخضر إلى دمار.
كأن اللبناني لا يكفيه بؤس ما يعيشه من دوامة الاستمرار في أزماتٍ داخلية، حتى تتطور متلازمة "راوح مكانك" في القضايا الخارجية، لا سيما مسألتي صندوق النقد الدولي وترسيم الحدود البحرية مع العدو الإسرائيلي. هذا الملف الذي لم يزل "يراوح مكانه" منذ عام 2011، من دون التوصل إلى حلّ يسمح للبنان بالاستفادة من ثروته النفطية والغازية، علّ ذلك ينعش دورته الاقتصادية.
من القضايا العالقة أيضًا، ولم يعرف الحلّ طريقًا لها، موضوع التفاوض مع صندوق النقد الدولي؛ لقد شكّلت الحكومات المتعاقبة، منذ الانهيار الكبير إلى اليوم، لجانًا للتفاوض مع الصندوق، علّها تستفيد من القروض المدعومة، إلا أنّ المسؤولين في لبنان يضعون القوانين ويعرقلونها معًا، كي تبقى المشكلة تراوح مكانها، تمامًا كما قانون التدقيق الجنائي، الذي وافق عليه المجلس النيابي، لكنّ الشياطين تكمن في التفاصيل، فكان التفنّن في وضع العراقيل.
المسؤولون في لبنان يضعون القوانين ويعرقلونها معًا، كي تبقى المشكلة تراوح مكانها
تتلبّد الغيوم منذرةً بأمطار مبكرة في شهر أيلول، بين المماطلة التي يبديها المفاوض الأميركي، آموس هوكشتاين، في ملف الترسيم البحري، والتهديد الذي حمله أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، إلى انتهاء المهلة، وبين الوضع الاقتصادي المتدهور، والكيدية السياسية التي يمارسها اللاعبون في الداخل لعرقلة مسار التقدّم. لا حلول تلوح في الأفق، ولبنان مقبلٌ على فراغ جديد يتمثل في عدم القدرة على انتخاب رئيس جديد للبلاد.
فراغ قد يكون ضيفًا ثقيلًا على لبنان في نهاية ولاية ميشال عون في 30 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، باللعب على روحية القانون في المادة 62 تحديدًا من الدستور، التي تتّسم بعدم الوضوح في تحديد نوع الحكومة التي ستستلم صلاحيات رئيس الجمهورية. لهذا لن يكون لبنان بخير، إن دخل لعبة رفض تسليم رئيس البلاد بينما أصرّ ميقاتي على تعويم حكومته المستقيلة.
فراغُ يهيمن على أجواء بلد انعكس إفلاسه حتى إلى بعثاته الدبلوماسية، حيث أفادت مصادر دبلوماسية بأن سفاراتٍ كثيرة بدأت تتلقى دفعات هي بمثابة سلف من سفارات أخرى لديها فائض، كي يتمكّن الموظفون من قبض رواتبهم المتأخرة أيضًا.
قد تستفحل متلازمة "راوح مكانك" في لبنان، في غياب لدور الدولة
ليس الفراغ ما يهدّد لبنان، إذ نشرت صيحفة لوفيغارو الفرنسية تقريرًا سلطت الضوء فيه على التداعيات الأمنية والاجتماعية على لبنان، مع عودة مئات اللبنانيين من عناصر التنظيمات المتطرّفة من سورية. ولفتت الصحيفة إلى أن عدم وجود إطار قانوني لعودتهم يؤدّي إلى بقائهم فترات طويلة في السجن من دون محاكمة، ما يعرّضهم لخطر تشجيعهم على العودة إلى نشاطاتهم السابقة، الأمر الذي يُحدث فوضى أمنية تزيد من حالة الترهل الذي يعيشه لبنان.
أخيرًا، قد تستفحل متلازمة "راوح مكانك" في لبنان في غياب جدّي ورسمي لدور الدولة وحضورها، وفي ظلّ مجتمع دولي يعيش على وقع أبواب إعلان النفير العام للحرب العالمية الثالثة. لهذا، سيبقى لبنان يراوح مكانه، ولن يستطيع تخطّي عقباته، ولن تكون إلى جانبه دول صديقة، ولا دعم من مؤسسات دولية، طالما هو لا يريد التقدّم، ولو خطوة واحدة، نحو الإصلاح.