متلازمة الطفل المدلّل
يدخل الطفل الصغير مع أحد والديه إلى السوبرماركت فيملأ سلّة مشترياته بكل ما يصادفه من أنواع الشوكولاتة وسواها، لكنه إذ يفرط في الابتسام في وجوه العاملين في المتجر، لا يجد أي ضرورةٍ لشكر والده، وتلك من سمات ما تسمّى مجازاً متلازمة الطفل المدلّل الذي يظنّ أن كل ما يتلقّاه من ذويه ليس سوى استحقاقٍ بدهي، لا يُوجب شكراً أو شعوراً بالامتنان.
ينطبق هذا على الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، وأغلب رؤساء الوزارات في إسرائيل، وخصوصاً نتنياهو، بحيث يبدو أن زيلينسكي يكرّر تجربة إسرائيل، بل ويسعى إلى التماهي معها في علاقته بالغرب عموماً. على أن ذلك، كما في حالة الطفل المدلّل، سرعان ما يصطدم بالتذمّر ما إنْ يدخل الطفل مرحلة النضوج، وبالتخلّي في حال تغيّرت ظروف الأب أو تبلور موقفه إزاء نجله، فبقليلٍ من القسوة وببعض الحرمان قد ينضج، وإلا فسيدفع الجميع الثمن.
على هامش قمّة حلف شمال الأطلسي (الناتو) أخيرا، جرى تداول تصريحات لوزير الدفاع البريطاني، بن والاس، على نطاق واسع، وإنْ كان بعضها قديما بعض الشيء، فالرئيس الأوكراني لا يُبالغ في طلباته من قادة الغرب وحسب، بل ويستفزّ أيضاً، فهو يُملي عليهم ما يجب أن يفعلوا ويقدّموا. ولو كان الأمر في يده فربما طلب تزويده بأسلحةٍ نوويةٍ تكتيكية، ما دفع والاس إلى الشكوى، قبل نحو عام، من أن بلاده ليست متجر أمازون. ورغم أنه الوزير البريطاني حرص لاحقاً على توضيح توقيت تصريحاته وسياقها، إلا أنه بدا كأنه يمثّل زعماء غربيين كثيرين تُظهرهم صورة التُقطت على هامش القمة، وهم منشغلون فيما بينهم، وقد تركوا زيلينسكي وحيداً تماماً، كطفلٍ تُرك في الحديقة فظنّها غابة، فلم يعرف ضبط مشاعره أو حتى توصيفها.
لم تكن تصريحات والاس مجرّد شكوى، بل أقرب إلى الصفعة، فزيلينسكي يضغط ولا يتوقف، ويريد كل شيءٍ تقريباً، من دون أن يتجاوب مع بعض النصائح التي يريد أصحابها نهايةً للحرب، ويروْن أنه لا بأس من المفاوضات، ومن بعض التنازلات لتجنّب حربٍ قد تصبح نووية. لكن زيلينسكي العنيد يرفض، فيأخُذه عنادُه إلى هزائم كان يمكن تجنّبها لو كفّ عن فكرة أن يطلُب فيُجاب، وكانت هزيمة باخموت الصعبة مثالاً على تضخّم أوهام الرجل الذي يظنّ أن الغرب لن يتخلّى عنه، وأنه يستطيع أن يجرّ هذا الغرب خلفه حتى في المعارك المحسومة استراتيجياً ضدّه، فماذا سيفعل لو عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مثلاً؟ أو فاز بالانتخابات من يشبّه ترامب ويتبنّى مقولاته بشأن الحرب الأوكرانية؟
هذا ما لا يتحسّب له زيلنسكي الذي يريد تأبيد فكرة أن يمدّ يده ويغرف من مخازن الأسلحة الغربية، لا لشيء إلا لأن معركته عادلة. ويفعل هذا وسواه من دون أن يعرف أن مواقف العواصم الغربية ونخبها قد تتغيّر، فأنت لا تستطيع أن تموّل حرباً خاسرةً إلى الأبد، فأهداف الغرب، والولايات المتحدة تحديداً، من الحرب الأوكرانية تحقّقت في أغلبها، فموسكو تغرق في المستنقع، وهي عملياً خرجت من نادي الدول الكبرى، ومن الملعب الدولي، بعد أن تعذّر عليها حسم الحرب في أول أسبوعين، لكن زيلينسكي يظن غير ذلك، فيظل يطلب ويلح في الطلب، حتى يأتيه مسؤول غربي، مثل وزير الدفاع البريطاني ليقول له إننا لسنا متجر أمازون.
لا يختلف نتنياهو عن زيلينسكي الذي يتصرّف كطفل متطّلب، ويظن أنه يخوض معركة الغرب. وبالتالي، طلباته لن تُرفض. تماماً مثل حكّام إسرائيل عبر تاريخها، فروايتهم تقوم على أنهم رأس الحربة للغرب في هذه المنطقة "المتخلفة" من العالم، وأن دورَهم الوظيفي مرتبط عضوياً بالغرب، ولا سبيل إلى إعادة النظر فيه، لكن هذا أصبح تحت المجهر، وربما إعادة النظر، فمصلحة الغرب تقوم على أن يضبط "الوكيل" إيقاع حركته على إيقاع الغرب، وليس العكس، وألا تكون كل حروب الوكيل لصالحه هو حصرياً، خصوصا أنها تتم بتمويلٍ سخيٍّ من الغرب الذي قد يكون من مصلحته أحياناً كبح الوكيل لحمايته من نفسه، أو لتأمين مصالح فرعية تخصّ الغرب، وليس إسرائيل أو أوكرانيا. هذا ما لا يريد نتنياهو فهمه ولا زيلينسكي.